أمّا وقد خفت الضجيج قليلاً، فربّما باتت محاولة قراءة ما شهدته حلب خلال الأيّام الأخيرة مُمكنةً ومجدية. لا يتطلّب الأمر أكثر من عودة متأنيّة إلى المشهد الحلبي على امتداد الأسبوع الأوّل من الشهر الجاري. في السابع والعشرين من الشهر المنصرم أعلن الجيش السوري رسميّاً إنجاز مهمّة «تطويق» حلب، تتويجاً لمسيرة شاقّة امتدّت لأكثر من عامين. بطبيعة الحال لم يكن ركون المجموعات المسلحة إلى هذه النتيجة أمراً متوقّعاً، بل كان المُنتظر أن تُجرّد تلك المجموعات (على اختلاف مشاربها) كلّ ما لديها من وسائل وخطط لإلغاء مفاعيل «الطوق» وفي أسرع وقت ممكن (وهو ما حصل). كان خيار الضغط عبر المحاور الجنوبيّة الغربيّة أحد أفضل الخيارات، استناداً إلى مقوّمات كثيرة، على رأسها أن «الجهاديين» الذين يشكّلون العمود الفقري لأي عمليّة، يحظون بثقل نوعي في الريف الجنوبي الغربي بفعل «العمق الحيوي» الذي يوفره ريف إدلب الشرقي لهذه المجموعات. كان «الحزب الإسلامي التركستاني» و«جبهة النصرة» («فتح الشام» لاحقاً) قد حقّقا في مرّات سابقة اختراقات عدّة في تلك «الخاصرة الهشّة».
خلّفت «انتكاسة الكليّات» انطباعاً بأنّ سقوط المدينة بات فعلاً مسألة وقت
لم تكن هذه الحقائق خافيةً عن أي متابع للمشهد الحلبي، ولا عن غرف عمليات الجيش وحلفائه بطبيعة الحال. وكان مصدر عسكري سوري قد أكّد لـ«الأخبار»، في الثامن والعشرين من تموز، أن «ما يظنّها الإرهابيّون خواصر هشّة ستكون مقابر لهم بمعنى الكلمة» (راجع «الأخبار»، العدد 2946). انطلق مقاتلو «فتح الشام» و«التركستاني» وشركاؤهما بعد ثلاثة أيام من هذا التصريح من «الخاصرة» عينها، واضعين هدفاً أساسيّاً ومُعلناً (للمرحلة الأولى): الوصول إلى الرّاموسة («الأخبار»، العدد 2949). خلال الأيّام الأربعة الأولى من «العمليّة» تقدّم المهاجمون بوتيرةٍ لا يمكن القول عنها إنّها استثنائيّة أو غير مسبوقة. لكنّ عدسة «البروباغندا» المُضخّمة نشطت بوتيرة تفوقُ بأضعافٍ وتيرة المقاتلين على الأرض. الأهداف التي أُعلنت للمراحل المتتالية من «العمليّة» كانت على رأس أدوات التضخيم. وليس من المتوقّع أن واضعي خطط «جيش الفتح» كانوا يُصدّقون أن السيطرة على كامل مدينة حلب هي أمرٌ مُتاح بالفعل، لكنّ تبنّي هذه الفكرة وتسويقها كانا صالحين لأداء وظيفة مزدوجة: شحذ همم المسلّحين ومُناصريهم، والضغط النفسي على المُدافعين والشارع الموالي. لعب تكثيف الاستهداف الناري لحي الحمدانية المكتظ بالسكّان دوراً إضافيّاً في مفاقمة الشعور بالخطر لدى سكّان أحياء حلب الغربيّة بأكملها. خلال يومي الجمعة والسبت الماضيين وصل التأجيج ذروتَه بعد الإعلان عن «غزوة إبراهيم اليوسف»، واحتفل بعض المعارضين سلفاً بـ«سقوط حلب». جاءت «انتكاسة الكليّات» التي أسفرت عن انسحاب الجيش من مُجمّع الراموسة العسكري لتُخلّف انطباعاً طاغياً بأنّ سقوط المدينة في يد «جيش الفتح» بات فعلاً مسألة وقت لا أكثر. بطبيعة الحال، لم يتمّ إخلاء الكليّات بفعل «البروباغندا»، بل نتيجة ظروف طارئة فرضتها تطوّرات المعركة بفعل عوامل لا تقتصر على عنف الهجمات المتتالية. الإعلام «المُعارِض» والداعم لم يكتف بالإنجاز الذي أسفرت عنه المعارك، فتوسّعت «ثغرة الراموسة» عشرات المرّات، وتحوّلت إلى «طوق مُعاكس» وضع أحياء حلب الغربيّة وقوّات الجيش السوري وحلفائه تحت حصار «إعلامي» فذ. حتى إنّ بعض المُنظّرين المعارضين قد انخرطوا في إعداد «خطط لإدارة المدينة بعد التحرير»! ثمّة ملاحظات كثيرة تستوجب الوقوف عندها في هذا السياق، على رأسها الحاجة الملحّة لدى الأوساط المعارضة (بجميع ألوانها) إلى «إنجاز» يعيد الروح التي كادت تخبو. والواقع أنّ وقتاً طويلاً كان قد انقضى منذ آخر «إنجاز» فعليّ حققّته «المعارضة»، وهو إنجاز «فتح إدلب» قبل قرابة عام ونصف («الأخبار»، العدد 2554)، فيما يندرج كلّ ما بعدَه في خانة معارك الكر والفر، ومثال ذلك الخروقات التي تم تحقيقها في ريف حلب الجنوبي غير مرة (وهي خروقات جاءت بعد انتكاسة كبيرة أفرزها الدخول الروسي المباشر، ونجاح الجيش في فك حصار نبل والزهراء في الريف الشمالي والسيطرة على مساحات واسعة من الريفين الشرقي والجنوبي لحلب). وعلى نحو مماثل، سار الأمر على جبهات اللاذقيّة ودرعا والغوطة وسواها. وللمفارقة، فإنّ القاسم المشترك الأعظم بين ما تمّ تحقيقه في إدلب سابقاً وما تمّ تضخيمه في حلب قبل أيّام، هو أنّ «الإنجازَين» قد تحقّقا بفضل «البندقيّة الجهاديّة» تحت راية «جيش الفتح» وبجهود أساسيّة من «النصرة/ فتح الشام» و«الإسلامي التركستاني»، و«أحرار الشّام الإسلاميّة». ثمّة قاسم مشتركٌ بارزٌ بين «الإنجازَين» أيضاً، وهو التهليل الكبير الذي واكبَت فيه معظم «المُعارَضات» الحدث في المرّتين. تهليلٌ كاد «يرتقي» إلى درجة «التكبير»، جاء ليثبتَ قدرة «المجاهدين» على تحقيق ما لم يُحقّقه سواهم من «رصّ الصفوف».



«فتح حلب» الحلم المستمر

تربّعت حلب على رأس خطط «الفتح» في الشمال السوري منذ سنوات طويلة. وحتى منتصف العام الماضي، كان معظم خطط اقتحام المسلّحين للأحياء الغربيّة مرتكزاً بشكل أساسي على بوّابة حي الزهراء (المدخل الشمالي الغربي لمدينة حلب). كان مبنى المخابرات الجويّة بمثابة «قلعة» أحبطت تلك المحاولات مرّات عدّة، قبل أن ينتهي الأمر بتفجير أجزاء واسعة منه في نيسان 2015. لكن الجيش السوري وحلفاءه كانوا قد حوّلوا المنطقة برمّتها إلى منطقة عسكريّة قبل شهرين من ذلك التفجير، الأمر الذي حال بين المجموعات المسلّحة وبين الإفادة من الحدث («الأخبار»، العدد 2535). منذ شهر آذار 2015 بدأت خطط «الفتح» النظر بعين الاعتبار إلى منفذ الراموسة، المدخل الجنوبي الغربي إلى المدينة. ومن المفيد التذكير بأنّ «خطّة فتح حلب» الأخيرة، هي في واقع الأمر عبارة عن نسخة مُحدّثة من خطّة مشابهة كانت قد أُعِدّت قبل حوالى عام ونصف («الأخبار»، العدد 2613)، لكنّ تنفيذ الخُطّة وقتذاك عُلّق في اللحظات الأخيرة. الفارق الجوهري بين الخطّتين أن خطّة آذار 2015 كانت تقوم على تحييد «الجهاديين» عن الواجهة وحشد دعم عالمي للمعركة وصل حدّ التبشير بـ«حظر جوي»، فيما قامت خطّة آب 2016 على الالتفاف بشكل أساسي حول الراية «الجهاديّة».