كانت جدتي سودة تجلس على كرسيّها أمام المنزل. وبالرغم من أنها لم تكن تحب مغادرة البيت تقريباً إبان اقتراب الشتاء، لكنها أصرّت يومها على أن تجلس أمام باب الدار، كما أخبرتني أمي، وهي تحدثني عن ذكرياتها قبل ولادتي. ومع أن الجو كان بارداً، إلا أن أحداً لا يملك أن يقول لها ما تفعله. ومع إصرارها على البقاء هناك، أحضر لها والدي "تنكة" (علبة تنكية) جبنةٍ فارغة، ووضع فيها بعض ألواح خشبية وأشعلها كي تستدفئ بنارها. سودة التي كانت تتغطى بدثارٍ صوفي قديم أحضرته من منزلها في الكويكات، كان لا يبين منها إلا رأسها وكتفيها، فيما باقي جسدها كان مختبئاً خلف سحب الدخان والغطاء الأثير. يومها بدت جلبةٌ في المكان، فقال أبي محدثاً إياها: "مبين في حدا مهم جاي عالمخيم". كعادتها، سودة لا تُعِر الأمر اهتماماً. "بيكون شي طزع كبير، بيطبلوله وبعد شوي بكبلهن مي وبيزحطلهن". نطقت بهذه الكلمات ببطء وسرعان ما عادت لأكثر ما تحبّه وهو تحريك الأخشاب المحترقة بواسطة ملقطٍ كبير تمسكه بيدها اليمنى. الضجة باتت أقرب، وأحست سودة بأن هناك شيئاً يقترب. فجأة اقترب منها شخصان، أحدهما كان مسؤولاً في أحد التنظيمات، أما الثاني فكان شخصاً نحيلاً ذا شعرٍ يغزوه الشيب. سلّما بأدب، فردّت جدّتي السلام، قال المسؤول: "عالعافية يا حجّة، هادا أخونا رسّام بجريدة السفير، حابب كان يزوركم ويتعرّف عليكم". حركت سودة النار قليلاً ثم رفعت رأسها: "ليش من وين بيعرفني لـبده يتعرف علي؟". بدت قاسيةً بعض الشيء، ولكن "حقانية". أربكت إجابتها المسؤول: "له يا حجّة هو ما بيعرفك، هو بس بده حدا من جيلكم يتحاكى هو وياه عن فلسطين". تنحنح الرجل الثاني قليلاً ثم قال: "أنا من عين الحلوة، بس مش عم بطلع كتير عالمخيم عشان الأوضاع زي ما انتِ عارفة". سودة قاطعته لحظتها بندائها لوالدي لإحضار كراسٍ خشبية وقشية (من تلك التي كانت موجودة في أغلب البيوت آنذاك) كي يجلس الضيوف عليها، مع التوصية طبعاً على إعداد الشاي بالمرمية (القصعين). "شو بدك يا بنيي؟"، ظلت جدتي تحرّك النار بالملقط بيديها. حاول مسؤول التنظيم أن يتدخل ههنا: "هو كان بده"، لكن جدتي كعادتها وبسرعة قاطعته: "ما حكيتك إلك يا أبو نزار". بهت المسؤول، لكنه سكت، حينما تكلّم القادم من عين الحلوة: "أنا عم برسم بجريدة "بنانية" (لا يلفظ كثيرٌ من الفلسطينيين اللام حينما يتكلمون عن اللبنانيين ولبنان، لذلك يصبح بناني بمعنى لبناني وبنانية بمعنى لبنانية)، وحاسس إنه نشفت. بطل عندي شي أقوله، بدي إرجع أحس بفلسطين. بعرف كلامي هيك عجيب بس والله حابب إرجع أشم ريحتها لفلسطين. سودة لم ترفع رأسها عن النار أو تنظر إليه كثيراً: "آه وشو بدك مني أنا بالزبط؟". اتسعت ابتسامته الكبيرة: "بس احكيلي عن فلسطين تبعيتكو يما، أنا طلعت منها عمري 11 سنة".
سراً كانت سودة تحب من ينادونها بـ"يما". صحيحٌ أنها كانت لا ترغب فيها من كثيرين، لكن كانت تلك من النداءات الأجمل بالنسبة إليها. دخل ذلك الشاب ذو الشعر الأشيب قلبها منذ تلك اللحظة، ومنذ أن سمعت أنه من مواليد فلسطين. سألته عن قريته وأهله قليلاً، ثم شرعت تحكي له عن الأرض والحقول والحيوانات اللبونة التي كانت عائلتها تربيها، وكيف كانت تساعد أهلها في كل شيء وعن زواجها الذي أقيم في فترة انقطاع الأرزّ عن الضيعة.
فجأة بات عدد الجالسين لسماع تلك الحكايات يتجاوز العشرة: أبي وأمي، أولاد عماتي وبعض الجيران. كان صوتها هادئاً مليئاً بانفعالات مختلفة، لكن الرجل لم يكن يسجّل أي شيء، فقط ينظر إليها ويبتسم، وأحياناً يضحك. حاول المسؤول مرة أخرى أن يوجّه الحديث، لكن ابن عين الحلوة قاطعه: "خلي الحجة تكمل، شو مالك يا زلمة". حكت جدتي لقرابة الساعة، حكت كثيراً، ربما كانت المرة الأولى والأخيرة التي تحكي إلى هذا الحد أمام أشخاصٍ "غرباء" عنها. بعدها نظرت إليه طويلاً ثم قالت: "اشرب شايك، برد". كانت تلك إشارتها إلى أن الحديث انتهى. شرب الشاب الأشيب الشاي البارد بتلذذٍ ثم نظر إليها قائلاً: "رح أرجع أشوفك مرة تانية يا خالتي. وإذا شي مرة رحتي على الحمرا أو حدا من قرايبك مرق لهونيك أنا بشتغل بجريدة السفير، بس قوليلهم ناجي العلي، ودغري بيجيبوكي لعندي". نظرت سودة إليه، ابتسمت قليلاً: "كل الناس خير وبركة". ثم أطرقت تنظر إلى النار وتداعب الأخشاب المحترقة.