في منتصف شهر أيار/مايو الماضي، تحدثت صحيفة "المغرب" التونسية عن "طبخة سياسية" يجري إعدادها داخل قصر الرئاسة في قرطاج تهدف إلى إقالة رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، وتكليف إما مدير ديوان القصر سليم العزابي (38 عاماً)، أو وزير الشؤون المحلية يوسف الشاهد (41 عاماً). والمشترك بين الرجلين هو صغر سنّهما، وانتماؤهما إلى حزب (الرئيس) "نداء تونس"، وقربهما من الباجي قائد السبسي.في الثاني من تموز/جويلية الماضي، أعلن الرئيس التونسي مبادرته لتشكيل "حكومة وحدة وطنية" تتفق على برنامجها الشخصية التي سترأسها والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية (النقابية)، وهو ما حصل فعلاً حين انطلق ما عُرف إعلامياً بمشاورات قرطاج، بمشاركة تسعة أحزاب سياسية، وثلاث منظمات، ووقّعت تلك الأطراف على "وثيقة قرطاج" في 13 تموز/جويلية. بعد ذلك، عادت الأحزاب والمنظمات إلى مقارّها للتفكير في شخصيات تقترحها لترؤس "حكومة الوحدة"، وكان الجميع ينتظر حجب الثقة برلمانياً عن حكومة الحبيب الصيد الذي كان قد رفض الاستقالة طوعاً.

المفاجأة...

بعد إخراج الصيد من الحكومة، استأنف السبسي المشاورات لتحديد الاسم الذي سيشكل الحكومة، ودعا المنظمات والأحزاب إلى الاجتماع في قصر قرطاج. لكن خلافاً لما توقعه الجميع، طرح الرئيس التونسي مباشرة اسم وزير الشؤون المحلية والقيادي الشاب في "نداء تونس" لتشكيل الحكومة، وذلك رغم علمه بأن أربعة أحزاب مشاركة في المشاورات ترفض تقلّد متحزّب لمنصب رئيس "حكومة الوحدة الوطنيّة".
بصورة علنية، وضع السبسي الأطراف المشاركة في حوار قرطاج أمام حل من بين اثنين: القبول بالشاهد، أو الاتفاق في ما بينهم على اسم آخر يطرحونه عليه، فيما هو يعلم جيداً أن الحل الثاني مستحيل. وبذلك، نجح مخطط الرئيس، الذي كانت الصحيفة التونسية قد تحدثت عنه منذ أسابيع، وربما لم يكن الحوار والمشاورات إلا بمثابة تكتيك سياسي لرجل خبر السياسة منذ عهد الرئيس الأول لتونس الحبيب بورقيبة.
لم يكن الحوار إلا تكتيكاً سياسياً لرجل خبر السياسة منذ بورقيبة

هكذا، رمى السبسي بشباك مناورته، ووضع التونسيين (باستثناء الائتلاف الحاكم الذي يضم حركة النهضة) أمام خيار واحد، وكان من التداعيات الأولى الارتباك الواضح بين غالبية الموقّعين على "وثيقة قرطاج"، بينما التزمت المنظمات الاجتماعية، المؤثرة في البلاد، التحفظ، بانتظار برنامج الحكومة والتأكد من التزام يوسف الشاهد بتطبيق ما تضمنته "وثيقة قرطاج" التي من أولوياتها "مكافحة الإرهاب ومحاربة الفساد والرفع في نسق النمو والتحكم في التوازنات المالية".
بعد تكليف يوسف الشاهد، أمس، استفرد "نداء تونس" بما يسمى (اصطلاحاً) الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، والبرلمان، والحكومة). ورغم انقسام هذا الحزب قبل أشهر وتحوّله إلى الحزب الثاني في البرلمان خلف "حركة النهضة"، فإنّ الأخيرة ترفض حتى الساعة تولّي مسؤوليات الحكم لأسباب عدة، قد يكون من بينها اتفاق ضمني بين السبسي وزعيم "النهضة"، راشد الغنوشي.
وبخلاف نتائج المشاورات السياسية التي سيجريها يوسف الشاهد في الأيام المقبلة، فإنّ أي تشكيلة سيطرحها على البرلمان ستتمكن من الحصول على الثقة باعتبار أنّ أحزاب الائتلاف الرباعي (نداء تونس، آفاق، الاتحاد الوطني الحرّ، وحركة النهضة) تدعم خيار السبسي، وقد أكد القيادي في "النهضة" العجمي الوريمي لـ"الأخبار"، أمس، ذلك، وهو الموقف نفسه الذي أكده المتحدث الرسمي باسم "آفاق"، وليد صفر.

هل يحكم "النداء"؟

قد يبدو "نداء تونس" هو الرابح الأكبر اليوم، خصوصاً بعد النجاح في تكليف شخصية من الحزب لتشكيل الحكومة المقبلة. لكن في الوقت نفسه، فإنّ التجربة الحكومية الأولى كانت مخيّبة لآمال التونسيين، خاصة أنّ "النداء صدّر أزماته للحكومة وصار مصدر عدم استقرار وعرقلة للعمل الحكومي، وكان للصراعات في داخله تداعيات كبرى على الحكومة"، وفق ما قال أستاذ العلوم السياسية التونسي، حمزة المؤدب، قبل أيام لـ"الأخبار"، مشيراً إلى أنّ هذا الحزب "تحوّل إلى واجهة لتسلط لوبيات المال النافذة، ولأطماع ابن رئيس الجمهورية وعائلته، ما عمَّق الأزمة عن طريق خلق سلطة موازية فعلية في مقابل أطراف حاكمة لا تملك من أمرها شيئاً، بل مطلوب منها أن تتحول الى واجهات لا أكثر".
وإلى جانب إخفاق التجربة الحكومية الأولى، فإنّ تخلي "نداء تونس" عملياً عن حكومة الحبيب الصيد ومحاولته تشكيل حكومة قد تضمّ أحزاباً إضافية إلى جانب أحزاب "الائتلاف الرباعي"، هو مشهد لا بدّ من أن ينتج حكومة سياسية توافقية معقدة التركيب وترأسها شخصية لن تتمكن من فرض قراراتها، لا في داخل الحكومة ولا أمام رئاسة الجمهورية التي باتت تستفيد أيضاً من غياب محكمة دستورية لتزيد عبر الممارسة السياسية صلاحياتها، فتحوّل النظام المرتكز على "دستور 2014" إلى ما يشبه نظاماً رئاسياً، في انحراف واضح.
ويسعى "النداء" إلى الحفاظ على نفوذه السياسي الحالي، في الوقت الذي ينتظر فيه الرأي العام التونسي نجاحات في عدد من الملفات بعد نحو عامين على انتخابات عام 2014. وفي الوقت نفسه، "من الممكن جداً أن تغرق البلاد في مأزق سياسي جديد، إذ عندما يكون عندك تسعة أحزاب في حكومة، وثلاث منظمات نقابية ضمن الفريق الحكومي نفسه، يجب الانتباه جيداً الى تعيين الوزير الأول، وإلى توزيع الحقائب الوزارية"، كما قال أستاذ العلوم السياسية التونسي حاتم مراد، في حوار متلفز قبل يومين، مضيفاً أنه في "الفترة الانتقالية كل شيء وارد، فالفترة الانتقالية هي في جوهرها غياب الاستقرار... وما دامت هناك صعوبات، سيكون الرأي العام دائماً غاضباً، لأن الرأي العام لا يصدق إلا ما يراه".