أثار توالي الأحداث الطائفية في مصر أخيراً غضب الأقباط حول العالم، فتصاعدت دعوات من منظمات قبطية في الخارج إلى تنظيم مظاهرات تندد بالعنف الطائفي، وبسلوك الحكومة التي لا تزال تلجأ إلى «المصالحات العرفية» بين المعتدي والمعتدى عليه. قابل الخطاب الرسمي، السياسي والإعلامي، تلك الدعوات بخوف وتشكيك كبيرين، وحاولت الكنيسة المصرية الضغط على مطلقيها لاحتوائها، فيما خرجت أصوات تحذّر من «اللجوء إلى الخارج» ومن الصورة المصرية التي يروَّج لها هؤلاء أمام العالم.بعد اندلاع أحداث محافظتي المنيا وبني سويف، بدءاً بتعرية سيّدة قبطية وصولاً إلى قتل أفراد وحرق منازل واشتباكات بين المسلمين والمسيحيين، دعا الناشط مجدي خليل، الذي يدير منتدى «الشرق الأوسط» في واشنطن، إلى تظاهرة أمام البيت الأبيض اليوم (الثاني من آب)، ما لاقى فوراً ردود فعل غاضبة لدى الإعلام المصري وبعض المسؤولين. صحيفة «اليوم السابع» كتبت في افتتاحيتها، قبل أسبوع، إن دعوات التظاهر أمام البيت الأبيض «تزعم اضطهاد الأقباط»، وإن الحوادث التي تقع بين مسلمين وأقباط «هي في مجملها مواقف فردية». وتساءلت الصحيفة المصرية عن «سبب عدم وقوف البابا في وجه هؤلاء الأقباط بكل ما يحملون من أجندات».
الكنيسة المصرية عارضت
دعوات التظاهر في واشنطن

لكن الكنيسة المصرية عارضت فعلاً دعوات التظاهر في واشنطن، حتى إن بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، تواضروس الثاني، طلب وقف المظاهرات، وذلك عبر إرساله توجيهات إلى الكنائس القبطية في الولايات المتحدة. كذلك، شدد رئيس «لجنة الشؤون الدينية» في البرلمان المصري، أسامة العبد، عقب لقائه بالبابا، على ضرورة «احتواء أقباط المهجر»، حتى لا يتم الترويج لمصر عالمياً بصورة غير مقبولة... «وإن تطلب ذلك السفر إلى الخارج لوأد الفتنة».
أيضاً، الأنبا بيمن، وهو أحد أعضاء الوفد الكنسي الذي التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل أيام، توجّه إلى الأقباط في الخارج بالقول: «إذا كانوا يرسلون رسالة للخارج، فنقول لهم الخارج لن يفعل شيئاً». هذا الخوف الشديد، الذي كاد يترك الأزمة الحقيقية ويصوّر الاحتجاجات الخارجية على أنها هي الأزمة التي يجب معالجتها، يثير تساؤلات كثيرة عن أصله، ويوجب البحث عن حقيقة ما تخاف منه الحكومة ورأس الكنيسة المؤيد لها، وعما إذا كان لتلك المنظمات «أجندات» تحتّم شكوك الدولة.
يوضح الصحافي والباحث المصري سليمان شفيق أن الأحداث الطائفية أجّجت غضب كثيرين، ولا سيما الأقباط في الولايات المتحدة التي تضم أكبر تجمع لهم (نحو ثلاثة ملايين مواطن)، كما تحوي منظمات شهيرة تُعنى بشؤونهم، وفي مقدمتها «التضامن القبطي». يشرح شفيق أن قلق دوائر الحكم في القاهرة بعد دعوة مجدي خليل تعود «لما للأقباط من مكانة أمام دوائر القرار في واشنطن، خصوصاً أنه مع زيادة أعدادهم في الخارج تكوّن ما يمكن وصفه باللوبي القبطي».
شفيق يُذكّر بأن «أقباط المهجر» مارسوا سابقاً ضغوطاً قوية على الأنظمة الغربية لاتخاذ مواقف متشددة ضد الحكومة المصرية أثناء الحوادث ذات الصبغة الطائفية، حتى بات نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك يقيم لهم وزناً، ويخشى دورهم في تغيير بعض السياسات الغربية تجاه حكمه.
أما الباحث في «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، إسحاق ابراهيم، فيرى أن التظاهر حق مكفول دستورياً وقانونياً، لذلك لا يوجد ما يمنع من أن يتظاهر مواطن للتعبير عن رأيه، خصوصاً أن مطالب الداعين إلى التظاهر «مشروعة وينادي بها كثير من المصريين، ولا تستطيع الحكومة إنكار وجود اعتداءات على الأقباط وتمييز ضدهم في بعض المجالات»، داعياً الحكومة، بدلاً من نقد المظاهرات ومن ينظّمها، إلى التدخل لتطبيق القانون وتحقيق المساواة بين المصريين، فتسد أي ذريعة لنقدها.
ويشير إبراهيم إلى أنه سبق لقطاع واسع من «أقباط المهجر» التظاهر لدعم السيسي بعد عزل الرئيس محمد مرسي في الولايات المتحدة ودول أوروبية، وقد رحّبت الدولة بهذه المظاهرات ورأت فيها تسويقاً للنظام الجديد دولياً، فيما يذكّر شفيق بأن نظام السيسي استعان بالأقباط في الخارج أخيراً لمواجهة «الإخوان المسلمين» إبّان زيارته للولايات المتحدة لإلقاء كلمة بلاده أمام الأمم المتحدة في 29 أيلول 2015.
ومن المفارقات أن الناشط الذي تزعّم تنظيم مظاهرات داعمة للسيسي في واشنطن ضد حكم «الإخوان»، هو مجدي خليل نفسه، الذي يدعو حالياً إلى التظاهر أمام البيت الأبيض.
وعن التشكيك في وطنية المتظاهرين واتهامهم بالاستنجاد بالبيت الأبيض، يشرح سليمان شفيق أن للكنيسة المصرية المسيحية الأرثوذكسية «هوية وطنية وعقيدية»، وهي الوحيدة التي يسبق فيها «لاهوت الوطن» لاهوت العقيدة، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في تسميتها (القبطية/المصرية ثم تأتي الأرثوذكسية أي العقيدة).
هذا الواقع يصعّب الحديث عن مشاريع «كيانية» أو طائفية شبيهة بما قد نراه في دول المشرق المعربي، لذلك يقول شفيق إن القبطي أينما ذهب «يصطحب كنيسته ووطنه». ورغم اندماج معظم المسيحيين في الخارج، منذ الستينيات، انتشرت الكنائس القبطية الأرثوذكسية في أكثر من مئة دولة، وصار لها أكثر من 60 كنيسة في كل الولايات ومعظم المدن الكبرى.
بالنسبة إلى علاقة الكنيسة بالنظام المصري، يؤكد الصحافي والباحث المصري أنه كان للكنيسة دور في الدعم غير المباشر للمنظمات القبطية ضد الرئيس الأسبق أنور السادات، بعد أحداث «الخانكة» عام 1972 (بداية الأحداث الطائفية)، حتى اغتياله. ويرجع شفيق ذلك إلى أول زيارة لمبارك إلى الولايات المتحدة عام 1982، حينما أوفدت الكنيسة أسقف الشباب الأنبا موسى، كي يدعو اللوبي القبطي إلى «حسن استقبال الرئيس الجديد». كذلك ذكر أن علاقة الكنيسة باللوبي القبطي في الولايات المتحدة «ترتبط بعلاقة الكنيسة بالحاكم»، وربما بلغت أعلى موجاتها من «الترابط» في مواجهة حكم «الإخوان المسلمين» بين 2012 و2014.
اليوم، ومع تحفظ الكنيسة على الدعوات والمظاهرات، يبرز التعارض بين الكنيسة والأقباط في الخارج وفقدان سيطرتها عليهم، ما يدفع كثيرين إلى السؤال عن إمكانية التصادم بين الكنيسة واللوبي القبطي. لكن شفيق يلفت في هذا الإطار إلى ما طرحه الأسقف العام للمنيا، الأنبا مكاريوس، حينما دعا إلى جعل التحركات أمام السفارة المصرية لدى واشنطن لا البيت الأبيض، كحلٍّ وسط قد يحدّ من تنامي «شكوك» الحكومة.




«أسطورة» الدولة القبطية

منذ سنوات، يثير عدد قليل من المواقع الإلكترونية والناشطين المعدودين، دعوات إلى «إقامة دولة للأقباط»، متزامنة مع اندلاع الأحداث الطائفية في محاولة لاستثمارها.
يرى سليمان شفيق هذه الدعوات «أساطير» تتكرر في كل أزمة، بين أوساط بعض «المخبولين» الذين لا يحملون أي صفة، لكن تلك «الأسطورة» ترفضها الكنيسة على مر التاريخ ويرفضها المجتمع بشكل عام والأقباط بشكل خاص، وبعيداً من الشعارات، مصر «أكبر من التقسيم»، والأقباط يدركون أن تلك الدعوات ضدهم.
ويتطرق شفيق إلى نزعات جديدة في أوساط الأجيال القبطية الشابة عن «الأمة المصرية» وأنهم «السكان الأصليون»، علماً بأن الأقباط «مندمجون في سبيكة واحدة مع المواطنين المسلمين، وهم يمتلكون 31% من الثروة القومية، ويمثلون نحو 15% من السكان المنتشرين في كل بقاع الوطن».