يحمل كوزو أوكاموتو، بطل عملية اللدّ (1970) والوحيد الذي «نجا» (إن كان ممكناً استخدام هذا الوصف لمن وقع أسيراً في يد مجرمي التعذيب الإسرائيليين)، بطاقة اللاجئ السياسي الأول في لبنان... والأخير. فلبنان، كما يعرف الجميع، ليس بلد لجوء، فهو حتى في هذه المسألة الإنسانية، بلد ترانزيت. ما زلت أذكر النضال الذي مارسه الشارع بهدف الضغط على السلطة اللبنانية لتمنح هذا البطل الأممي، الذي فقد اتزانه من شدة التعذيب في سجون إسرائيل، بطاقة لاجئ سياسي. طبعاً كان المقابل تسليم بقية مجموعة الجيش الأحمر الياباني لسلطات بلادهم، المصرّة على الانتقام منهم.
اليوم، يريد «لقلق» الأمم المتحدة، التي يبدو أنها متحدة فقط علينا، أن يتحول كلّ من لبنان، والأردن وتركيا، أي الدول المحيطة بسوريا ما عدا إسرائيل، والتي تؤوي نازحين سوريين، إلى وطن بديل لهؤلاء النازحين، فتعطيهم جنسيتها، في رغبة أممية واضحة بنهاية غير سعيدة للأزمة السورية، إن كان ممكناً إطلاق صفة السعادة، ولو على نهاية هذا النوع من الصراعات.
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية على زغل. لا غالب ولا مغلوب إلا الشعب اللبناني الذي عاش حرباً أهلية باردة، ما زالت تتفاقم على مهل، تماماً كما تفعل الطبخة المعلقة في قدر فوق جمر مغطى بالرماد. نوع من حرب دائمة بين مكونات البلد اللبناني.
أما في البوسنة، حيث اندلعت حرب أهلية بداية التسعينيات وحوصرت سراييفو لأربع سنوات، في أطول حصار لمدينة (قبل تحطيم حصار غزة للرقم القياسي عالمياً)، فتذابح البوسنيون والصرب والكروات، القوميات الثلاث التي كان قد جمعها جوزف بروز تيتو في ما كان يسمى يوغوسلافيا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. إلا أنّه، وما إن انتهت الحرب، وتمّ التقسيم المطلوب غربياً، حتى نشط أصحاب القرار في أوروبا وأميركا بتبديد آثار تلك الحرب، ما عدا واقع التقسيم. هكذا، بدأت مصالحات، ومحاكمات، ونبش للمقابر الجماعية، ووضع قانون للبحث عن المفقودين، وإنشاء بنك حمض نووي تُحدَّد عبره هويات الجثث المنبوشة، ويُعاد الاعتبار إلى هؤلاء من خلال دفن جماعي سنوي بمشاركة رؤساء البلاد الثلاثة: الصرب والكروات والبوسنيين. هذا مسار البلاد التي تريد أن تخرج من ماضيها الأسود إلى غد أفضل.
حسناً، لماذا يراد لسوريا أن تنتهي أزمتها بالشكل اللبناني وليس بالشكل البوسني؟
فالنهاية الملبننة للحرب الأهلية السورية (وإن لم يكن توصيف أهلية دقيقاً) ستجعلها تسرع الخطى نحو تلك الحرب الداخلية الدائمة بشكلها البارد.
ينطلق اقتراح بان كي مون، وخلفه الأميركيون بالطبع، من افتراض أن معظم النازحين من سوريا لن يعودوا إليها في ظل انتصار النظام المتوقع. أو لنقل إنهم يتمنون ذلك. أما السبب؟ فيعيده متابعون إلى الشأن السوري، إلى رغبة غربية في التحكم بالانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا، حيث سيسمح للنازحين الملوَّح لهم بجنسية أخرى، أن يختاروا رئيساً لبلادهم التي لن تعود بلادهم بعد تلك الانتخابات إن صدق وعد الغرب بجنسيات أخرى!
هكذا، وبدلاً، من أن يشجعوا على نموذج بوسني على أساس المصالحة والعفو العام الذي عاد وأكده نداء الرئيس السوري أخيراً، ها هم يستبقون النهاية القريبة على ما يبدو للأزمة السورية، بفرض نهاية أخرى، من شأنها أن تحرف مسار مستقبل البلد عبر التحكم بالانتخابات المقبلة، واستطراداً عرقلة المصالحات السورية، نحو اللبننة، أو الحرب الأهلية الدائمة.
بالطبع، اللاعب الأوحد الذي يمكنه أن يُفشل هذه الخطط هو الدولة السورية الخارجة من الحرب. خريطة الطريق واضحة في النموذج البوسني، من العفو العام إلى المصالحات بعد الإقرار بالمسؤوليات وطلب الصفح إلى البحث المخلص عن المفقودين إلخ... على أمل أن لا يتعدى احتذاء النموذج البوسني المصالحات إلى التقسيم.
لكن، ماذا عن البلدان التي يقترح الغربيون التوطين فيها؟ تركيا مستعدة، كما لمّحت، لتوطين 300 ألف «ملف» أو 300 ألف عائلة. قد يكون المشروع التركي هو إنشاء منطقة اجتماعية معادية بشكل عميق لسوريا «الباقية» عبر وضع كل هؤلاء على الحدود التركية السورية الحساسة، فيتحولون إلى منطقة فاصلة مفتوحة على كافة الاستخدامات ضد سوريا. أما لبنان الذي ينوء منذ خمس سنوات تحت عبء أمني واجتماعي لمليون ونصف مليون نازح على أرضه، فهو غير مستعد لتوطين سوري واحد.
فالديموغرافيا المقدسة تمنع قلب موازينه الطائفية الدقيقة. وحتى لو لم تكن تمنع، فإن العقل والمنطق يقولان إن قلب هذه الموازين بهذا الشكل الفظ، هو مشروع حروب أهلية لا تتوقف، خاصة في بلد تراكمت فيه المشاكل بالرغم من بقعته الصغيرة، أصلاً بنية لبنان «سينيه» فرنسياً ومصممة لاستيلاد حروب أهلية طائفية ومذهبية كل فترة، فكيف إن كان توطيناً لمليون ونصف مليون نازح أغلبهم من المسلمين، مرة واحدة؟ إن أي رشوة أممية لن تكون مربحة للبلاد.
طبعاً، المسيحيون السوريون كالمسيحيين اللبنانيين والمشرقيين عامة، مرحب بهم في الغرب، لا بل يستدرجون إلى الهجرة في مسعى لفرز شرق مسلم تخضّه حروب مذهبية، أمام غرب مسيحي يمتصّ خيرات هذا الشرق أثناء «غيابه» أو غيبوبته المتمثلة بغرقه الدائم بالحروب الداخلية والخارجية.
في هذه الأثناء، ما الذي سيحصل؟ ستصبح إسرائيل موطناً دائماً لليهود... وحدهم. ففي منطقة مفروزة دينياً كم هو مبرر هذا «الوطن» الصافي لليهود! كم هو سهل التحكم بالعالم حين يكون بالأبيض والأسود!