سقوط حي بني زيد «عرسٌ» انتظره سكان الأحياء الغربية في حلب. ويمكن القول إنّ سكان تلك الأحياء يضعون معركة حلب بأكملها في كفّة، والسيطرة على الحي الذي شكّل باستمرار مصدراً لقذائف الموت في كفّة أخرى. ولم يبدُ مستغرباً أن يبادر كثيرٌ من أهالي المدينة إلى التعبير عن الابتهاج بالتطوّرات الأخيرة في مدينتهم، ويخرج بعضهم إلى الطرقات احتفالاً بسقوط «المستوطنة»، وفقاً للتسمية التي راجت في الأوساط الشعبية. في الوقت ذاته، انشغل قسمٌ من السكان بمصير نظرائهم في الأحياء الشرقيّة. تختصرُ أم عدنان حال شريحة من الشارع الحلبي. تقول السيدة الستينية لـ«الأخبار» إنّها «مبسوطة طبعاً، الشهر الماضي استشهد ابني بقذيفة أجت من بني زيد». لكن لماذا لا يدلّ صوتك على الابتهاج يا خالة؟ نسألها، فتجيب «بنتي وجوزها ساكنين ببستان القصر (أحد الأحياء الشرقيّة) مشغول بالي عليهم». على أرض الواقع، ما زالت عائلات كثيرة موزّعةً بين شطري المدينة. لم يكن خيار «النزوح» متاحاً لجميع السكان، لأسباب يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي بـ«المواقف».
يطلق في الأوساط الحلبية على حيّ بني زيد «المستوطنة»
ثمّة قسم من سكان الأحياء الشرقيّة اختاروا البقاء هناك بمحض إرادتهم، ورأوا في ذلك تعبيراً عن «موقفٍ مُعارض». سنوات الحرب الطويلة أسهمت في تكريس مواقف هؤلاء. التساؤل الذي تبدو الإجابة عنه مهمّة شبه مستحيلة هو «كيف سيقدم من اختبر نيران الطائرات والمدفعيّة على الانتقال إلى الجهة الأخرى؟». كذلك فإنّ المغادرة في حدّ ذاتها لا تبدو حتى الآن خياراً مُتاحاً ببساطة، سواء لجهة موقف المسلّحين أنفسهم من السماح للمدنيين بالمغادرة، أو لجهة مخاوف بعض الراغبين من طريقة التعامل التي قد يحظون بها في «الطرف الآخر»، خاصّة أنّ «الخطاب التعبوي» المهيمن على الحرب السوريّة لم يدع لثقافة «المصالحة» حيّزاً جديراً بالاعتبار. بصوت متقطّع يفرضه سوء الاتصالات، تشرح فاتن لـ«الأخبار» أنّها لم تحسم خيارها بعد. «مشتهية من جوّات قلبي أروح، بس والله خايفة. كلّن هون (في حي بستان القصر) عبقولو إذا رحنا بيجوز يمسكونا (يعتقلونا)». تؤكّد السيدة الأربعينيّة أنّ بعض جيرانها قرروا الرحيل، لكنهم «عبيستنوا حدا غيرهن يطلع ويشوفوا إش رح يصير معو». السلطات السوريّة كانت قد أكّدت أمس «افتتاح ثلاثة معابر لخروج المواطنين من الأحياء الشرقية لمدينة حلب، واتخاذ جميع الاستعدادات والترتيبات لتأمين إقامتهم في مراكز إقامة مؤقتة مجهزة بجميع الخدمات الطبية والإغاثية»، وفقاً لما نقلته وكالة «سانا» عن محافظ حلب محمد مروان علبي، لتعود الوكالة وتؤكّد أنّ «المسلحين يمنعون عشرات العائلات من الخروج». وهو أمر أكّد أبو محمّد (يقطن أحد الأحياء الشرقيّة) حدوثه. الرجل الخمسيني قال لـ«الأخبار» إنّ «عدداً من معارفنا ذهبوا إلى المعبر، لكنّهم أُمروا بالعودة من حيث أتوا». ومن المرجّح أنّ سماح المجموعات للمدنيين بمغادرة الأحياء الشرقيّة لن يكون أمراً متاحاً، إلا في حال الوصول إلى اتفاقات تتيح لبعض المجموعات الإفادة من «الفرصة» والوصول إلى تسويات ولو كانت جزئيّة. ولا يبدو أن السلطات السورية وحليفها الروسي قد غفلا عن هذا التفصيل، وهو أمر ترجمته مسارعة الرئيس بشار الأسد إلى إصدار مرسوم العفو. كذلك حضر هذا التفصيل في تصريحات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الذي قال إنّ بلاده «تعمل مع الجيش السوري لفتح ممرات آمنة تسمح بخروج المدنيين»، موضحاً أنّ «مسلحي المعارضة سيسمح لهم أيضا بمغادرة المدينة».

تباين في مواقف المسلّحين

كواليس المجموعات المسلّحة عكست تبايناً في النظر إلى «الخيارات المتاحة». بعض المجموعات تعاملت مع التطوّرات الأخيرة على أنّها نتيجة نهائيّة، وشرعت في تبادل الاتهامات حول المسؤولية. وحظيت «حركة أحرار الشام الإسلامية» بنصيب وافر من هذه الاتهامات، لأنّها «تقاعست عن المشاركة في المعارك الأخيرة، وخذلت حلب وأهلها»، فيما أكّد مصدر إعلامي من داخل «الحركة» لـ«الأخبار» أنّ «ما ضيّع حلب هو تعدّد الأهواء، ولا نقول إن الأوان قد فات». وأضاف «نأمل أن يكون الإخوة في جبهة النصرة قد قرروا المضي قدماً في الطريق الصحيح، وأن تُؤدي خطوتهم الأخيرة (فك الارتباط) إلى توحيد جهود جميع الفصائل على قاعدة: لا رئيس ولا مرؤوس». ويصبّ هذا الكلام في خانة الموقف الثاني، الذي يرى أصحابه أن «الفرصة ما زالت متاحة لإعادة الأمور إلى نصابها». ويؤكّد هؤلاء أنّ «معظم الفصائل قد باشرت الاستعداد لمعركة فك الحصار». في الوقت ذاته، انصرف بعض «القياديين» إلى محاولات «رأب الصدع» بين المجموعات و«تصويب البوصلة». أبرز ممثلي هذا التيّار كان أبو ماريّا القحطاني، الذي «غرّد» عبر صفحته في موقع «تويتر» مخاطباً «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» و«جند الأقصى» بالقول «هل تعلمون أنّ المعركة في حلب وليست في سهل الغاب؟ بالله عليكم لا تشمتوا الأعداء فينا».