شرح معلق الشؤون العسكرية في صحيفة «هآرتس»، عاموس هارئيل، أن سبب الاعتقاد الإسرائيلي الأخير بأن انهيار السلطة ليس قريباً إلى هذا الحد، لا يعود إلى أن الخوف من تبدد الرؤية الوطنية لحركة «فتح» يشغل بال رئيس السلطة، محمود عباس، بل لكون أبناء عائلته وأقرباء كبار المسؤولين الآخرين في النظام الحالي، يتمتعون بامتيازات اقتصادية كثيرة. ونتيجة ذلك، فإن انهيار السلطة سيؤدي إلى مصيبة اقتصادية للقيادة الفلسطينية، بجانب عن الخوف من أن يكشف الحكم الجديد كل فساد الحكم السابق.
هرئيل قال إن الخطر الأساسي لانهيار السلطة، وحتى بنيامين نتنياهو يصف هذا السيناريو بأنه خطير، يكمن في اليوم التالي لما بعد عباس، مضيفاً أن الأخير كان يحاول دفع تحالف صغير من بعض مقربيه يتصل بخلافته، بينهم رئيس جهاز «المخابرات العامة» ماجد فرج ومندوبه في المفاوضات السياسية صائب عريقات. لكن المشكلة أن نقل الحكم إذا ما حدث في المستقبل سيصطدم بمعارضة قاطعة من مسؤولين كبار آخرين، مثل محمد دحلان وجبريل الرجوب، الأمر الذي سوف يؤدي إلى اهتزاز استقرار السلطة، كما يرى، مضيفاً أن رام الله حالياً كفقاعة سياسية واقتصادية منقطعة عن الواقع اليومي الصعب الذي يعيشه السكان في مناطق أخرى من الضفة المحتلة، فضلاً عن قطاع غزة.
ضمن هذا الإطار، يحتمل أن تكون المشكلة الأولى للسلطة، وبالتأكيد في ما يتعلق بالخلفاء المستقبليين لعباس، مسألة الشرعية الدستورية لحكمها. خاصة أنه منذ عقد لم تجر انتخابات في المناطق، فيما تواصل السلطة السيطرة على مناطق مسؤوليتها في الضفة بقوة الذراع، وبحكم التمديد العملي لصلاحياتها. ومن المشكوك فيه أن تكون قادرة على اجتياز الاختبار القضائي، فالوضع القانوني المركب يسحق التأييد الجماهيري الفلسطيني للحكم، وإلى ذلك تنضم أيضاً الادعاءات الدائمة حول الفساد والانتقاد الموجه إلى السلطة، لكونها لا تنتهج خياراً صلباً بما فيه الكفاية ضد استمرار الاحتلال الإسرائيلي.
لم تجد عملية حجز جثث الشهداء نفعاً في خفض عدد العمليات

في كل الأحوال، ترى «هآرتس»، أنه عملياً من الصعب تصديق أن تجري انتخابات ديموقراطية برقابة دولية قريباً، في ضوء الانشقاق الجغرافي بين الضفة والقطاع والعداء الشديد بين السلطة وحركة «حماس». لكن عباس الذي حل محل عرفات عام 2004، يشعر منذ الآن بتآكل مكانته في المؤسسات الفلسطينية وأوساط الجمهور، في أعقاب غياب الانتخابات. وهذه هي العقبة التي ستصير أكثر علواً وملموسة أكثر في المستقبل، عندما يدخل خلفاء عباس إلى الصورة.
كذلك توضح «هآرتس» أنه منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وفي خضم المواجهة وفي ظل الانتفاضة التي لا يجرؤون على تسميتها باسمها، بات «العنف» حقيقة قائمة، خاصة أن عمليات الدهس والطعن مستمرة، فيما تعجز الاستخبارات عن تفسير مسار تصاعدها وتراجعها.
ولفتت الصحيفة إلى أنه حتى الآن لم تظهر خلافات داخلية بارزة في موقف الطرف الإسرائيلي من المواجهة. فقد ساند نتنياهو وموشيه يعلون موقف رئيس الأركان غادي ايزنكوت، الذي سعى إلى الاكتفاء بخطوات رد محدودة على تصاعد العنف والامتناع عن حملة واسعة، بدعوى أنه لا وجه للشبه بين عمليات الطعن بالسكاكين وبين العمليات «الانتحارية» في الانتفاضة الثانية. بل ينظر ايزنكوت بقدر من السخرية إلى المطالب التي تدعو إلى تنفيذ عملية على غرار «السور الواقي» في الضفة، ويتساءلون عن جدوى مصادرة كل سكاكين المطبخ في رام الله والخليل، في الوقت الذي يعتقل فيه الجيش في كل ليلة عشرات المشبوهين للمشاركة في «الإرهاب» والعنف الشعبي.
مع ذلك، تضيف «هآرتس» أن إمكانية تنفيذ عملية واسعة في منطقة محددة، مثل الخليل، قائمة، لكن في هذه المرحلة لا يجري تنفيذها ما لم يصل عدد المصابين في الجانب الإسرائيلي إلى الحجم الذي يؤدي إلى إنتاج ضغط سياسي فعال على الحكومة، إضافة إلى أن الانتقاد الذي توجهه المعارضة، من إسحاق هرتسوغ حتى افيغدور ليبرمان، إلى أداء نتنياهو في مقابل العمليات هو انتقاد عمومي في جوهره ولا يقدم بدائل عسكرية عملية. فضلاً عن أن رئيس «البيت اليهودي»، الوزير نفتالي بينيت، الذي روج في الأسابيع الأولى لرد عسكري صلب وواسع، خفض منذ ذلك الوقت النبرة وغرق، في هذه الأثناء، في الانشغال بآثار قضية «الإرهاب اليهودي».
في المقابل، تبلورت إمكانية نشوب توتر معين بين القيادة السياسية والعسكرية، لكون أذرع الأجهزة الأمنية شخصت في الشهر الأخير تغييراً «إيجابياً» مهماً في أداء السلطة الفلسطينية في المجال الأمني. فقد تراجع «التحريض» في وسائل الإعلام في المناطق الفلسطينية، والتنسيق الأمني مع إسرائيل «تحسن» كثيراً، ورجال «التنظيم» من «فتح» لا يشاركون في التظاهرات. أيضاً عاد «ناشطو الأجهزة» الأمنية بأزيائهم إلى مراكز الاحتكاك كي يمنعوا المواجهات بين المتظاهرين والجيش الإسرائيلي ونفذوا حملات اعتقالات لخلايا «حماس» في نابلس والخليل.
والمفارقة أن كل هذا النشاط «الإيجابي» بذاته بعيون إسرائيلية، لم يؤد حتى الآن إلى أي انخفاض في شدة «الإرهاب»، ما يعني أن الخطوات التي تنفذها السلطة لا تؤثر ببساطة في منفذي عمليات الطعن والدهس، وإن كان يبدو لها أهمية، فتكمن في منع الانتقال الذي تخطط له «حماس» من انتفاضة بالسلاح الأبيض إلى انتفاضة مسلحة.
وعلى خلفية التحسن في سلوك السلطة، وفق المنظور الإسرائيلي، وإلى جانب الخوف من تحقق سيناريو انهيارها، يتعاظم التأييد في الجيش الإسرائيلي والاستخبارات، لخيار تقديم مبادرات وتسهيلات إلى السلطة، رغم استمرار موجة العمليات. هنا يدخل الجيش بوعي إلى مستنقع يؤدي إلى الغرق. فنتنياهو لا يؤمن واقعاً باستئناف العملية السياسية، وهو حساس جداً لكل تنازل من شأنه أن يسجل عليه كضعف أو استسلام إزاء استمرار «الإرهاب».
أما يعلون، الشريك في الشكوك إزاء احتمالات التقدم في القناة السياسية، فهو مستعد للمخاطرة مع ذلك بمبادرات «طيبة». وفي كل الأحوال لم يتخذ أي قرار حتى الآن بشأن هذه المبادرات. ورأت «هآرتس» أن الجيش اكتسب خبرة في إغضاب السياسيين حينما تجرأ على التلميح إلى أن المطلوب عنصر سياسي لإخماد النار.
في سياق متصل، أعاد جيش العدو إلى السلطة بهدوء تام وبتغطية إعلامية منخفضة، عشرات الجثامين للذين قتلوا عند تنفيذ عمليات في الضفة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة أو بإعدامات مباشرة. وحتى نهاية الأسبوع، تقول المصادر الإسرائيلية إنه لم يبق أي جثمان فلسطيني لدى الجيش. يأتي ذلك كمؤشر على إخفاق الرهان على اعتماد العقاب والردع بالاحتفاظ بجثامين الشهداء، وهي السياسة التي أقرها المجلس الوزاري المصغر، مع الإشارة إلى أن جهاز الشرطة، الخاضع لإمرة وزير الأمن الداخلي، غلعاد اردان، لا يزال يحتفظ ببضعة جثامين قتلوا في شرقي القدس وضمن الخط الأخضر.
أما في الجيش، فهم مقتنعون بأن «مناورة الجثث» لم تجد نفعاً بشيء حتى اليوم، فمنع الجنازات لم يلجم دوافع منفذي العمليات، بل العكس هو الصحيح، أي إن الاحتفاظ بالجثامين أسهم على مدى أسابيع في تصعيد التوتر في الخليل. ثم «تراجع» بعض الشيء عندما بدأت إسرائيل إعادتها. كذلك وصف ضابط رفيع في الجيش سياسة الاحتفاظ بالجثامين كجزء من العقاب والردع بأنها «سخيفة تماماً».