رفع المصريون في تظاهرات مليونية شعار إسقاط النظام، كما رفعوا شعار «عيش... حرية... عدالة اجتماعية... كرامة إنسانية». لكن وقائع ما حدث عكس ذلك تماماً. تحالف المصالح المشكل من طبقات وشرائح اجتماعية ومؤسسات دولة عتيقة وأجهزة أمن ومؤسسات إعلامية عامة وخاصة وارتباطات بدول كبرى في العالم والوطن العربي... كل ذلك كان له مصلحة في وقف المد الثوري، وهكذا اجتُزئ إلى بعض الإصلاحات التي لا تغير طبيعة النظام، ثم دارت «ماكينات» غسل الأدمغة لتلويث الثورة وتحميل أيامها وأبطالها كل قصور شاب الحياة على أرض الوطن، حتى لو كان عمره سنوات طويلة. أيضاً، عمل الإعلام بكل صنوفه كي تعود الشرطة إلى مكانتها قبل الثورة، بل ارتفعت الأصوات لتطالب بعودتها حتى لو كانت هناك بعض السلبيات والقصور في الأداء، وهكذا "عادت ريما لعادتها القديمة".كانت تراتبية السلطة في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك هي: الشرطة أولاً، التي توسع نفوذها حتى صارت رقم 1 في سلّم القوة، ومن بعدها القضاء وسلطة حماية المصالح بالقانون، وأخيراً القوات المسلحة صاحبة شرعية النظام. بعد ثورة 25 يناير 2011، وثورة 30 يونيو 2013، أعيد ترتيب سلم القوة وصارت القوات المسلحة رقم 1 في سلم القوة، ثم القضاء، ثم الشرطة، التي أصابها الانهيار.
فكان من الطبيعي بعد عودة القوات المسلحة إلى رأس سلم القوة أن يصير لها 604 لواءات يديرون المحافظات من 2010 إلى 2016، إضافة إلى إدارة 74 مدينة و42 حياً و56 شركة و57 جهازاً وهيئة. وهناك تقدير افتراضي لعدد المناصب المدنية المشغولة من عسكريين بنحو 2400 منصب كحد أدنى على مستوى الجمهورية. وسوف نجد أن العديد من رؤساء مجالس الإدارات للمؤسسات والشركات المهمة يترأسها عسكري من رتبة لواء، منها على سبيل المثال لا الحصر: هيئة ميناء الإسكندرية، واتحاد الاذاعة والتلفزيون، والهيئة العربية للتصنيع، والرقابة الإدارية، ورئيس هيئة الأوقاف.
2400 منصب مدني على مستوى الجمهورية يشغلها عسكريون

ومما لا شك فيه أن المعلومات قليلة بشأن القضاة ولواءات الشرطة المنتشرين في مواقع المسؤولية المدنية في المحافظات ومؤسسات الدولة المختلفة، وعبر مقارنة الأحجام نستطيع أن نحدد قوة ونفوذ كل من القوات المسلحة والقضاء والشرطة، ثم موقع كل منها في السلطة.
تأسيساً على ما سبق، كان من الطبيعي أن يسلك تحالف المصالح المذكور طريقاً مقيّداً للحريات العامة، بل يتناول المعلقون السياسيون أن عدد السجناء في السجون المصرية من أصحاب الرأي قد تجاوز أربعين ألفاً، ومنهم أعداد كبيرة مختفية (سمّي بالاختفاء القسري). كذلك فإن قانون تنظيم التظاهر، وهو قانون غير دستوري، يعمل على منع التظاهر تماماً، وبسببه دخل المئات السجن وحكم عليهم بسنتين وأحياناً خمسة أعوام، وفي حالات أخرى بالمؤبد. حتى قانون الحبس الاحتياطي، الذي صدر في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور (رئيس المحكمة الدستورية العليا)، أعطى سلطات الطوارئ للنيابة العامة، وبسبب ذلك، وتحت إطار «السجن الاحتياطي»، مرّ على بعض السجناء ما يقارب ثلاث سنوات من دون محاكمة ومن دون تحقيقات جدية. ويعلق بعض خبراء القانون بأن الحبس الاحتياطي «أخطر كثيراً من فرض حالة الطوارئ».
أما عن الاختفاء القسري، فهي قضية أخذت حيّزاً كبيراً في الحديث العام، خاصة في حال اختفاء ناشط وغياب اسمه عن أي سجلات رسمية، ولا سيما في وزارة الداخلية. لعل أبرز الامثلة اختفاء أشرف شحاتة. وبعض هؤلاء يظهر بعد مدة من التحقيقات والتعذيب، وغيرهم يختفي نهائياً. مثلاً، منظمة «هيومان رايتس مونيتور» أكدت وجود 44 حالة اختفاء قسري في شهر واحد عام 2016، من بينهم ثلاث فتيات. وكانت المنظمة قد وثّقت سابقاً اختفاء 13 حالة أخرى، وهي كلها مخالفة للاتفاقات الدولية.
ومع أن «ثورة يناير» قامت ضد تجاوزات الشرطة، فإن التواطؤ بين حلف المصالح القائم على السلطة في مصر، أعاد جهاز الشرطة إلى ممارساته قبل الثورة، وذلك بعد رفضه أي خطة لإصلاحه وتقويمه وجعله في خدمة الشعب فعلاً لا قولاً، لذلك كان من الطبيعي أن نسمع عن مقتل الطالب الإيطالي والعشرات غيره.
أيضاً، من الظواهر اللافتة في المشهد السياسي المصري تسييس القانون، حينما تتطوع هيئات قضائية ومحاكم في درجات مختلفة لإصدار أحكام يشوبها التسييس، مثل الأحكام الصادرة بحق الناشط أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح وقضايا الاعدامات، كإعدامات المنيا الصادرة في 24 مارس (آذار) 2014. إضافة إلى ذلك، هناك أربعة قوانين قد ساهمت مع قانون التظاهر في تقييد الحريات، منها القانون رقم 128 لسنة 2014 المعروف بقانون الأشياء الأخرى، الذي يعاقب كل من يتلقى تمويلاً من الخارج أو الداخل أو يحصل على أي أشياء أخرى غير محددة في القانون بعقوبة تصل إلى السجن المؤبد للمواطنين والإعدام للموظف العام.
القانون الثاني هو قانون الإرهاب رقم 94 لسنة 2015، ويحتوي على تعريفات فضفاضة تخالف مبدأ الدقة والوضوح في تعريف الجريمة. أما القانون الثالث، فهو القانون رقم 126 لسنة 2014، الذي توسع في إحالة المدنيين على القضاء العسكري في مخالفة واضحة للمادة 204 من الدستور. وأخيراً هناك مواد متعددة ومتناثرة في قانون العقوبات تسمح بحبس أصحاب الرأي، كما يطلق عليه ازدراء الأديان، الذي يقبع بسببه في السجن الأديب محمد ناجي، وإسلام البحيري، وهربت من الحكم عليها به الشاعرة فاطمة ناعوت.
نستطيع أن نضيف إلى ترسانة القيود على الحريات الإهدار اليومي للدستور، لأنه يستمر في سجن الناشطين رغم النص على حق التظاهر السلمي والإضراب السلمي، ورغم المادة 204 التي تنص على محاكمة المدنيين أمام القضاء الطبيعي.
زيادة على ذلك، فإن النص على نسب معينة من ميزانية الدولة لمصلحة التعليم والصحة لم يطبق، وهكذا نعيش إهداراً يومياً للدستور الذي حاز ثقة المصريين بنسبة فائقة. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك المحاولات الدؤوبة من الرئاسة للسيطرة على أجهزة الإعلام بوسائل متعددة، منها الإيعاز إلى رجال أعمال بشراء وسائل إعلامية وتشكيل احتكارات تحت السيطرة، مثل حالتي أبو هشيمة وأبو العينين.
وصلت بنا الحال إلى إحالة نقيب الصحافيين واثنين من مجلس النقابة إلى المحاكمة، وحبسهما والتنكيل بهما على يد أجهزة الأمن. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك عزل المستشار هشام جنينة، وهو رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، من موقعه، في مخالفة أخرى للدستور، وذلك لأنه تجرّأ وكشف عن الفساد القائم في أجهزة الدولة.
وليس أخيراً القراءة الموضوعية لكيفية تشكيل مجلس النواب حينما أصدرت قوانين ثلاثة مؤسسة للمجلس من دون حوار جاد حولها، بل رفض طلب القوى والأحزاب للحوار مع الرئيس بشأن تلك القوانين. وقد شاهدنا بعدها وعايشنا تدخل أجهزة الأمن في تشكيل مجلس النواب، وكان ذلك عبر رجل المخابرات سيف اليزل. كذلك تدخلت أجهزة أخرى في تأسيس حزب «مستقبل وطن»، ووجهت إليه مرشحين، وآخرون كثر تدخلوا وخططوا لمصلحة أجهزتهم وأدواتهم في البرلمان، فضلاً عن أن 75% من المقاعد الفردية سيطر عليها المال السياسي والنفوذ العائلي والقبلي، و25% قائمة مطلقة، وهو النظام الذي لا تعمل به أي دولة تقريباً.
هذا هو مشهد الحكم في مصر بعد مرور عامين على جلوس عبد الفتاح السيسي على مقعد الرئاسة المصرية، وهذا أيضاً مشهد الحريات في مصر بعد ثورتين!