يدخل تنظيم «داعش» السنة الثالثة من «الخلافة» بدرجة عالية من البراغماتية. ويمكن القول إنّ هذه الصفة تُعَدّ أبرز ما يميّز التنظيم المتطرّف الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في خلال الأعوام الأخيرة عن سواه من التنظيمات المماثلة. كان دخول التنظيم أتون الحرب السوريّة في حدّ ذاته تحوّلاً في مخطّطاته، فهي لم تكن على قائمة «الدول ذات الأولوية الجهادية». وهي قائمة كان «داعش» يتشاركها مع تنظيم «القاعدة» قبل أن يحلّ الشقاق بينهما، وتضم «المغرب وليبيا والجزائر ومالي ونيجيريا ومصر والسودان واليمن والسعودية وباكستان» قبل أن يُدرج العراق عام 2003، ثم سوريا عام 2011. اعتمدت استراتيجيّات التنظيم الأساسيّة تطبيق رؤى أبو بكر ناجي (بقي مجهول الهوية مع ترجيح أنّه المصري محمد صلاح الدين زيدان، المعروف بسيف العدل، الذي اختير زعيماً مؤقتاً للقاعدة بعد مقتل أسامة بن لادن، وقبل تعيين أيمن الظواهري) التي نظّر لها في كتابه الشهير «إدارة التوحّش»، مضافاً إليها اجتهادات أبو مصعب الزرقاوي (الأردني أحمد فاضل خلايلة) الذي أفاد من أفكار أبو عبد الله المهاجر (المصري عبد الرحمن العلي) في كتابه «فقه الدماء». تقوم فكرة «إدارة التوحّش» على تقسيم «العمل الجهادي» إلى ثلاث مراحل أساسيّة، هي مرحلة «الشوكة والنكاية، مرحلة التوحّش، مرحلة التمكين». قام «داعش» بحرق المراحل، وسارع قبل عامين إلى إعلان «الخلافة» قبل إنجازه مرحلة «التمكين» بشكل فعلي، ساعياً من وراء ذلك إلى استقطاب مزيد من «المجاهدين» عبر تحقيق حلم «دولة الإسلام». ومع حفاظه على أساسيّات عامّة ذات طبيعة «شرعيّة» في الدرجة الأولى، حرص التنظيم خلال السّنوات الماضية على إجراء تغييرات مستمرّة في أدائه على صعد عدّة.
التغييرات «الفكريّة»

منذ قيام «التحالف الدولي» ضدّه انخرط «داعش» في مراجعاتٍ لاستراتيجيّاته «الفكريّة»، أسفرَت أخيراً عن مُحصّلة نهائية قوامها «عدم ضرورة التزام ترتيب المراحل الجهاديّة، وجواز الاشتغال عليها بالتوازي». بدأت ملامح هذا التغيّر تتجلّى فعليّاً مع حلول الذكرى الثانية لإعلان «الخلافة» مع هجمات فرنسا وتونس والكويت (29 حزيران 2015، راجع «الأخبار» العدد 2626). كانت تلك الهجمات مقدّمةً لعودة التنظيم إلى العمل وفق مبدأ «النكاية» في مناطق جديدة، بالتوازي مع تطبيقه مبدأ «إدارة التوحّش» في مناطق سيطرته. شكّل هذا التّغيير قفزاً على نظريّات الزرقاوي حول «أولوية قتال العدو القريب، المتمثل في المرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة». لكنّ التنظيم لم ينظر إلى هذا التحول بوصفه نكوصاً، بل عدّه «تطويراً». وفيما يرى معظم المنظرين «الجهاديين» أن شنّ هجمات خارج «دار الإسلام» يندرج في خانة «جهاد الطلب» الذي يكتسب معنى هجوميّاً حيث يقوم على «قصد الكفار بالغزو في عقر دارهم إعلاءً لكلمة الله»، فقد اعتبرت تحوّلات التنظيم أنّ هذه الهجمات تندرج في سياق «جهاد الدفع» الذي يأتي «دفاعاً عن دار الإسلام وحرمات المسلمين».

التغييرات العسكريّة


منذ أواخر عام 2015 أقرّت قيادة «داعش» جملة تغييرات في طريقة تعاملها العسكري مع الساحة السوريّة. قسّم التنظيم المناطق إلى قسمين أساسيين: مناطق «وجود استراتيجيّ» ثابتة تستوجب الدّفاع عنها حتى الرمق الأخير (على رأسها الرقة، الموصل)، ومناطق «نفوذ مرحلي» يُمكن «الانحياز عنها عند الضرورة»، وأوضح أمثلتها تدمر. تلحظ التغييرات أهميّة «جني أكبر مكاسب ممكنة من مناطق الوجود المرحلي»، وتُقسم هذه المكاسب إلى أنواع عدّة: اقتصاديّة تلحظ «تحصيل أكبر قدر ممكن من الغنائم». وإعلاميّة، تُعنى بتثبيت صورة التنظيم القوي القادر على شن المعارك وانتزاع الأراضي. وتعبوية تقوم على ضرورة تجنيد أكبر عدد ممكنٍ من المقاتلين في المناطق التي يجري «فتحها». وقد أولى التنظيم أهميّة خاصّة لـ«المجاهدين الأنصار»، وهم المقاتلون المحليّون الذين يُرفَدون باستمرار بعناصر جديدة، تدفعه إلى ذلك عوامل أساسيّة مثل انخفاض رواتبهم قياساً بـ«المهاجرين»، إضافة إلى اعتبار «الأنصار الجدد» وقوداً مناسباً لمعارك الاستنزاف. كذلك، اهتمّ التنظيم بـ«فتح أكبر عدد ممكنٍ من الجبهات الجانبيّة، بغية تشتيت العدو»، مع التركيز على ضرورة «فتح هذه الجبهات بأقل عدد ممكنٍ من المجاهدين، وتحويلها إلى مناطق كرّ وفرّ مستمرّين»، (أوضح الأمثلة في هذا الإطار منطقة خناصر في ريف حلب الشرقي، وبعض مناطق ريف الحسكة).
التغييرات «الإدارية»
بدّل التنظيم بشكل جذري آلية إدارة المناطق الخاضعة لسيطرته. وبعد أن كان في مراحل سابقة يبدي حرصاً على كسب ودّ الحاضنة الشعبيّة من دون التخلي عن «تطبيق الحدود» حال ثبوت «الأسباب الشرعيّة»، حرص خلال العام الأخير على تكريس مبدأ «حدّ السيف» في التعامل مع سكان المناطق. ليزداد بطشه بالمدنيين، ويكثر «تطبيق الحدود» اعتماداً على الشبهات فحسب. كذلك انسحبت هذه الطريقة على معاملة التنظيم لمقاتليه أيضاً.