استقبل تنظيم «داعش» أمس الذكرى السنويّة الثانية لـ«إعلان الخلافة» وسط تغيّرات كثيرة عصفت بمناطق نفوذه (خسر خلال الشهور الأخيرة قرابة نصف مناطق سيطرته في العراق، وربعها في سوريا). انعكسَت هذه التغيّرات على أداء التنظيم المتطرف في مجالاتٍ كثيرة، لكنّها في واقع الأمر ما زالت قاصرة عن إلحاق ضرر جوهري في بنيته، رغم أنّ الأطراف الذين يرفعون لواء «الحرب على الإرهاب» كثيرون، وأنّ التنظيم «مُستهدفٌ» من قِبل دول وتحالفات تُشكّل مُجتمعةً الثقل العسكري الأكبر في العالم بلا مُنازع. تفتحُ هذه الحقيقة الباب أمام أسئلةٍ مشروعة، لا بل واجبة الطرح، حول جدّية بعض الأطراف (على الأقلّ) في محاربة التنظيم بشكل فعليّ. ثمّة «تحالفان» أساسيّان يُعلنان الحرب على «دولة الخلافة»؛ يضمّ الأول الجيش السوري (والقوات الرديفة له) وحلفاءه المُباشرين: موسكو، طهران، حزب الله، ومجموعات عراقيّة. أمّا الثّاني فهو المعروف باسم «التحالف الدولي» الذي تتزعّمه الولايات المتحدة، وأُنشئ بالتشارك بين «30 دولة هي بين الأقوى في العالم ومتباينة جغرافياً وإيديولوجياً، لكنها كلها تقول: قررنا أن نكافح داعش»، وفقاً لما «تغنّى» به وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس غداةَ مؤتمر باريس الذي عُقد منتصف أيلول من عام 2014. (راجع «الأخبار» العدد 2395). وباتت «قوّات سوريا الديمقراطيّة» بمثابة ذراع بريّة لهذا التحالف في سوريا، شأنها في ذلك شأن «جيش سوريا الجديد» المُشكّل من مجموعات سلفيّة الأيديولوجيا («الأخبار»، العدد 2836). يُضاف إلى التحالفين «تحالف ثالث» غير مصرّح عنه رسميّاً، ويضمّ مجموعات مسلّحة «مُعارضة» تنشط في سوريا، وهو «تحالف» يصبّ (نظريّاً) في بوتقة «التحالف الدولي»، غيرَ أنّه يعمل وفق أجندة تُركيّة في الدرجة الأولى. وفيما يقتصرُ عمل الحلفين الأوّل والثالث على الأراضي السوريّة، يتعدّاها التحالف الثاني إلى العراق. وهناك يواجه التنظيم أيضاً الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي مدعومةً من طهران. فإذا وسّعنا النطاق نحو الجزء الأفريقي من الوطن العربي، فسينضم إلى القائمة الجيش المصري الذي وجد نفسه في مواجهاتٍ ذات طابع «دفاعي» ضد خلايا التنظيم في سيناء. وفي ليبيا يواجه التنظيم مجموعات عدّة محسوبةً على «المجلس الرئاسي الليبي» وبدعمٍ من حلف الناتو.
«الوحش» الذي وُلِد وكبُر تحت أعين الجميع لم يستوفِ أسباب تضخّمه بعد

وعلاوةً على كلّ ما سبق، تعتبر «دولة الخلافة» نفسها في حالة حرب ضدّ «جبهة النصرة» ومن خلفها التنظيم الأم «القاعدة». رغم كلّ ذلك، ما زالت «دولة الخلافة» قادرة على الاحتفاظ بمساحات كبيرة من الأراضي، وعلى أخذ زمام المبادرة في كثير من المرّات (داخل مناطق نفوذها وفي أنحاء العالم)، فأين يكمن السر؟ ثمّة احتمالان لا ثالث لهما: أوّلهما (وهو ضربٌ من الخيال) أنّ «داعش» بالفعل قوّة لا تُقهر (ربما وجب في هذه الحالة على زعماء العالم المسارعة إلى «مبايعة الخليفة»). أما الاحتمال الثاني (وهو أقرب إلى الحقيقة) فإنّ «الوحش» الذي وُلِد وكبُر تحت أعين الجميع وفي غير غفلةٍ منهم، لم يستوفِ أسباب تضخّمه بعد ولم يستكمل وظائفه. وبعد أن استثمرت الفوضى التي خلّفها الغزو الأميركي للعراق في خلق التنظيم ووضع هيكليّاته على يد «المؤسس» أبو عمر البغدادي (راجع «الأخبار»، العدد 2340)، تكرّر الأمر مع الفوضى التي اجتاحت سوريا منذ عام 2011 ليجد كثيرٌ من الأطراف في دخول التنظيمات «الجهاديّة» (وعلى رأسها «داعش») إلى المعادلة السوريّة استثماراً ناجحاً («الأخبار»، العدد 2626). تناوب الأطراف الأدوار في غضّ الطرف عن «تمدّد» التنظيم، مع سعي كلّ منهم إلى تجيير مآلات هذا التمدّد لمصلحته.
وفي هذا السياق يتطابق المشهد العراقي مع نظيره السوري مع اختلافات في الحيثيّات فحسب. ورغم النكسات التي طاولت «دولة الخلافة» بين وقت وآخر في الساحتين السوريّة والعراقية، غيرَ أنّ «صراع الأجندات» ظلّ متحكّماً في مسارات الحرب ضدّ «داعش» الذي أحسن (حتى الآن) استثمار هذا الصراع واستعادة التوازن غير مرّة. ومن المفيد التذكير بأنّ «الهزائم الكبرى» التي طاولت «داعش» جاءت في معظم الأحيان أشبه بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء قليلاً من دون التفكير في «شلّ» هذه العقارب. وعلى سبيل المثال، فإنّ الفرصة التي سنحت مع انكسار التنظيم بين معركتي جرف الصخر في العراق (تشرين الثاني 2014) وعين العرب في سوريا (كانون الثاني 2015) لم يتمّ إهدارُها فحسب، بل وفُرّغَت من معانيها مع نجاحه في استعادة التوازن بعد شهور قليلة واحتلال مدينتي الرمادي العراقية وتدمر السورية في أيار 2015 («الأخبار»، العدد 2591). واستلزم الأمر بعدها ستة أشهر لدحره من الرمادي، وتسعةً لدحره من تدمر. تطرح مستجدّات الشهور الأخيرة أسئلةً جديّة حول مدى إمكانية تكرار السيناريو مستقبلاً، وحول الأمكنة والأزمنة المُحتمَلة لعودة التنظيم إلى واجهة الهيمنة، إذ على الرغم من الهزائم المتتالية التي أُلحقت به في النصف الأول من العام الجاري (سواء في العراق أو سوريا) برز تأثير «صراع الأجندات» جليّاً في إيقاف المعارك على أبواب الرقّة والموصل (عاصمتَي «الخلافة»). الجيش السوري وحلفاؤه لم يكملوا السير نحو مطار الطبقة، و«قوات سوريا الديمقراطيّة» بدأت في اليومين الأخيرين التراجع أمام التنظيم في مناطق سبق أن سيطرت عليها في الريف الشمالي للرقّة.
وعلى نحوٍ مُشابه وبتزامنٍ لافتٍ، أعلن رئيس هيئة أركان الجيش العراقي «إيقاف عمليات استعادة ناحية القيارة ومناطق جنوب الموصل، لأسباب تتعلّق بحسابات عسكريّة»، لنجد أنفسنا أمام تكرار غريب لأحداث العام الماضي مع تبدّل في بعض «ديكورات» المسرح. عناصر اللعبة تتشابه: تقدّم للتنظيم، ثم اندحار، ثم تقدّم جديد في جغرافيا جديدة، فاندحار، تضاف إليها هجمات إرهابيّة يتبنّاها التنظيم حيناً في أوروبا والولايات المتحدة وآخر في «دول النطاق»: الأردن، لبنان، وتركيّا، تليها إعلانات عن اعتزام اللاعبين الدوليين تكثيف جهود «محاربة الإرهاب».