"مائة رجل يبنون خيمة وامرأة واحدة تقيم بيتاً"كونفوشيوس


■ ■ ■


تلك المرأة لا يمكن أن أنساها قط: إنها امرأة بإرادة فولاذية، لدرجة أنها لو أرادت أن تهدم جبلاً لحولته إلى حصى! من في مخيمنا لا يعرف أم محمود؟! إنها أشهر من نار على علم. ليس السبب فقط أنها كانت في صغرها من أجمل فتيات المخيم وأكثرهن فتنة، قبل أن يفوز بها أبو محمود، بعد منافسة شرسة مع "كبشة عرسان"، انتصر عليهم جميعاً، وتزوجها وهي في سن السادسة عشرة، إذ كان الزواج المبكر شائعاً وقتها. كما أن سبب شهرتها لا يعود إلى كثرة إنجابها فحسب، فقد أنجبت عشرة أولاد-ما شاء الله- خلال الثماني عشرة سنة الأولى من الزواج! وليس كذلك، لأن كل ما لديها من ذكاء وفطنة يفوق كل ما لدى رجال المخيم ونسائه. هنالك سبب أهم من هذه الأسباب جميعاً.


■ ■ ■


الميزة التي لا تدركها في مخيمنا أنه "ما فيه اشي مخبى": لا خصوصية هناك، بحكم تلاصق البيوت وتداخلها معاً. مشاكلك هناك مسموعة للجميع. لو عطست في بيتك سيقول لك جيرانك "يرحمك الله" على الفور. وبالتالي كنا نسمع "البث الحي والمباشر" لمحاورة الزوجين من بيتهما:
- هبل اللي يهبلك انشا الله! شو مالك يا أم محمود؟! انجنيتي انتي؟! "توجيهي" مين وبطيخ مين؟! بعد ما كبر وشاب ودوه ع الكتاب؟!
- طول بالك ي أبو محمود: كل القصة إني بدي أشجع الولد على الدراسة وخلينا ندرس سوا. وما راح أقصر بشغل البيت بالمرة: لا معك ولا مع الأولاد!
- القصة هاي شيليها من راسك نهائي! فاهمة؟!


■ ■ ■


ولم تنس "أم محمود"! كانت قد بلغت الرابعة والثلاثين عاماً وقتها، عندما قررت أن تتحدى ابنها "محمود" وأن تتقدم معه لامتحانات "التوجيهي" (الاسم الشائع في الضفة الغربية وقطاع غزة لـ الثانوية العامة أوالبكالوريا)، زاعمة أن هذا الأمر "من باب تشجيعه"، وهو القرار الذي أثار لغطاً كبيراً. كان الحجر الذي هز بركة المخيم الراكدة وقتها: كيف لا وهي أول امرأة في تاريخ مخيمنا تقرر هذا القرار؟!
كان "أبو محمود" قد تزوجها وهي لم تزل بعد فتاة مراهقة، تحصلت على شهادتها في الصف الثاني الثانوي بتفوق، لتكون الأولى على مدرستها، قبل أن يقرر زوجها أنه "لحد هان وبيكفي علم"، تاركاً إياها لتهتم بالأولاد الذين تتابعوا خلال مسيرة زواجهم الطويلة: كان هو أكبر منها بأربع سنوات، ويعمل في مجال "ديكورات الجبس" داخل دولة الاحتلال (عندما كان هذا الأمر ممكناً لسكان قطاع غزة منذ سنوات طويلة)، حيثُ كان يخرجُ منذ ساعات الليل الأولى، ليعود متأخراً، بأجر عمل محترم، لا يتحصل عليه وزير.
كانت "أم محمود" أكثر النساء نشاطاً ومثابرة، فرغم هذا العدد من الأولاد، وترك زوجها الحمل عليها بالكامل، إلا أنها قد أثبتت أنها "قدها وقدود": أمور بيتها منظمة ومرتبة تماماً، وأطفالها منضبطون كأنهم أفراد في الجيش. كان من الطبيعي في مخيمنا أن ترى طفلاً يلعب حافياً أو شبه عار وقد جللت الأوساخ ملابسه، إلا أطفال "أم محمود": كانوا استثناء كأمهم في كل شيء، فقد كانت أمهم تتابع تدريسهم واحداً تلو الآخر بجلد لا مثيل، إضافة إلى تدبيرها أمور نفقات البيت بدقة تامة: لا تبذير على الإطلاق. كل قرش في محله، مما جعل أسرتها محسودة من قبل المخيم بأكمله. كم كانت امرأة فريدة حقاً!


■ ■ ■


انتصرت أم "محمود" في النهاية، ووافق "أبو محمود" على مضض بأن تتقدم لامتحانات "التوجيهي"، بعدما فهم أنها لن تلتحق بمدارس ولا غيره، وأنها لن تغادر البيت إلا إلى الامتحانات فقط! لكن هذه المرأة الحديدية استطاعت أن تفعل الأعاجيب: تمكنت من أن تدرس وتتابع دروسها على مدى سنة كاملة، بجد واجتهاد، تفوقت فيه على ابنها البكر، الذي كنا نصفه في المخيم بأنه "بَصِّيم" (تسمية محلية في غزة، تطلق على الشخص المتفوق دراسياً، بحكم مراجعته لما تلقاه من دروس أولاً بأول)، لتحصل في النهاية على معدل أعلى منه، رغم أنه كان مثلها في الفرع الأدبي! لكن "الطامة الحقيقية" لم تكن في أنها أرادت نيل شهادة "التوجيهي"، ولا في أنها قد حصلت عليها فعلاً، بل فيما حدث بعد ذلك..



■ ■ ■


- "نعم! نعم! نعم؟! لعند هان وخلص الحكي: المرة هاي لو بتنطبق السما على الأرض ما راح يمشي ها الحكي.."!
طبعاً عدنا لـ"البث الحي والمباشر"، من بيت "أبو محمود" الذي وصل صوت "جعاره" (صراخه) لآخر "المخيم وما بعد المخيم وما بعد بعد المخيم"! فيما كان كل الجيران يستمعون للنقاش الدائر بين الزوجين، ليفهموا ملخص الحكاية "بكلمتين": "أم محمود" انجنت وبدها تدرس بالجامعة!! كانت هذه المسألة غير موجودة بالمطلق في جيل السيدات من المتزوجات وكبار السن وقتها، ولهذا أصبحت "أم محمود" موضع التندر بين عدواتها وأعدائها في المخيم من الحاسدات والحاسدين-"اللي ما شاء الله ربنا مكترهم"!- وكان على رأس الفئة الأولى حماتها بالطبع، التي راحت توسوس لابنها: "قلنا أخدت "توجيهي" وسكتنا يمَّا، أما قصة الجامعة هاي جديدة! خير يا طير؟! شو بدها بالجامعة وانتا زلمة معلم بصنعة الجبس وكسيب وقد الدنيا ومش مقصر معها باشي ومأكل أولادها ومشربهم أحسن أكل وأحسن شرب؟؟ بعدين هاي بتصير بكرا تتكبر عليك قدام الناس وتقولك شهادتي أكبر من شهادتك! اصحا منيح للكلام يا بنيي. أنا بدي مصلحتك!".
ما لاحظته وقتها أن هنالك نسبة معتبرة من الناس في مخيمنا تفكر بعقلية "نجاح أخي فشل لي": لماذا تنجح أنت وتطور نفسك، ونبقى نحن كما نحن؟! ينبغي أن نحطمك بشتى السبل"! ومن هنا بدأت حرب شعواء ضد "أم محمود"، التي استطاعت في نهاية الأمر إقناع زوجها بذكائها أن تدخل الجامعة "لفصل واحد فقط من باب التجربة"، وأنها ستكون في جامعة ليست مختلطة، كما أن نفقاتها "مقدور عليها". طبعاً نال "أبو محمود" ما ناله من سخرية العديد من أقرانه الرجال الذين علقوا بتعليقات على غرار:
الله يهديك يا "أبو محمود". المرة (المرأة) لو بتطلع ع المريخ، بتضل للنفخ والطبيخ!
بكرا بتصير تعصي نسواننا علينا ويقولوا بدهم يتعلموا بالجامعة هنه كمان! خليها تكمل!!
نسوان آخر زمن! الله يجيرنا من اللي جاي..!


■ ■ ■


برغم كل المعيقات، استمرت قافلة نجاحات "أم محمود" في السير. كانت نبيهة وتعرف كيف تهدئ من ثورات زوجها بذكائها، وأن تركز كل قواها في بناء ذاتها. ما فعلته حقيقة لا تكفيه حلقة واحدة في كتاباتنا بقسم "مخيمات"، بل هي بحاجة إلى رواية بأكملها: فقد كانت إنسانة رائدة في تاريخ مخيمنا، برزت خلال فترة كان نزول المرأة في المجتمع الفلسطيني بغزة يعد نوعاً من العيب، وكان الرجال يرفضون الزواج من الموظفة ويعتبرون الأمر منقصة من رجولتهم، قبل أن تتغير الأمور بفعل الصعوبات الاقتصادية، لتصبح المرأة العاملة فجأة "مرغوبة" من الخاطبين، ويكفي أن تحصل إحدى الخريجات على فرصة عمل كي تجد الخاطبات لها يتتابعن على بيتها! ما علينا..
استطاعت "أم محمود" أن تتحصل على شهادتها الجامعية في مجال علم النفس التربوي، وبمعدل عال وخلال فترة قياسية، لتنتقل بعدها إلى الخطوة الموالية: النزول إلى سوق العمل! كالعادة، عارض "أبو محمود" في البداية، وقال لها: "بدك تجيبلي الحكي انتي من اللي بيسوى وبيسواش؟! شغل لأ! لحد هان وبيكفي! شو رأيك بالمرة أقعد أنا بالبيت وألبس الإيشارب وأصير أطبخ وأكنس وأمسح وأحبل وأخلف بدالك؟! ". لكن ما أرادته "أم محمود" استطاعت القيام به بعد شهور: لم يتم تجديد تصريح العمل الخاص بـ"أبو محمود"، بسبب الانتفاضة الثانية، التي جعلت دخوله للعمل لدى الإسرائيليين مرتهناً بالظروف الأمنية، مما جعل عملها ضرورة للإنفاق على "كتيبة الأولاد" التي أنجباها. وبسبب رجوع "أبو محمود" في كلامه مراراً، أصبح البعض في مخيمنا يدعونه تندراً باسم "حنفي"، وهي شخصية فكاهية شهيرة قام بدورها الفنان المصري الراحل عبد الفتاح القصري، والذي كان يردد خلال أدائها: "أنا كلمتي ما تنزلش الأرض أبداً"! لكن كلمة زوجته هي التي كانت النافذة في نهاية الأمر!


■ ■ ■


سبحان مغير الأحوال! أنا لا أتحدث عن أحوال "أم محمود"، التي استطاعت تحقيق ما لم تحققه امرأة من قبلها، حيثُ تمكنت من دراسة الماجستير في جامعة الأقصى بغزة، من خلال البرنامج المشترك ما بينها وبين جامعة عين شمس المصرية، ومن ثم استطاعت بعدها الانتقال في عملها من المدارس إلى التدريس الجامعي، لتحصل بعدها على منحة دكتوراه في إحدى الدول الغربية، بعدما تمكنت من تطوير لغتها الإنجليزية إلى حد كبير، ومن ثم استقرت هناك هي وأولادها، مع استمرار تردي الأوضاع في قطاع غزة.
أنا كنتُ أتحدث عن أحوال أعدائها في المخيم، الذين حاربوها لسنوات، واستهزأوا بها وحاولوا جعلها موضعاً للسخرية إلى أن انتصرت عليهم جميعاً: هؤلاء أصبحوا فجأة يشيدون بها، ويفاخرون بما فعلته! وبعدها، قامت العديد من النساء المتزوجات وكبار السن في مخيمنا بإكمال تعليمهن والالتحاق بسوق العمل، لكنها بقيت حتى اليوم أيقونة لا تنسى في ذاكرة مخيمنا الجماعية.