فيما خطوات «لبرلة» الاقتصاد السوري تشهد منذ سنوات تسارعاً متعاظماً، عززتها مجموعة من التشريعات والقرارات الحكومية، كان من أبرزها قانون التشاركية وتحرير أسعار السلع والمواد المدعومة تاريخياً وغيرها، أعادت الحكومة مؤخراً التذكير باستمرار سريان العمل بأحد أهم خطوات «التحول الاشتراكي»، والتي كانت قد بدأت مع حكومة الوحدة عام 1958، واستمرت لاحقاً مع بعض التعديلات، المناسبة لطبيعة كل مرحلة سياسية تعيشها البلاد.فقبل فترة قصيرة، أصدرت الحكومة، في أيامها الأخيرة، مجموعة قرارات تضمنت الاستيلاء بشكل نهائي على الأراضي الزائدة عن سقف الملكية لعدد من كبار المالكين، وذلك تنفيذاً لأحكام التشريعات والقوانين الصادرة خلال العقود الماضية، والمحددة لسقف الملكية الزراعية، كقانون الإصلاح الزراعي رقم 161 الصادر عام 1958، والمعدل بالمرسوم التشريعي رقم 88 لعام 1963، والمرسوم التشريعي رقم 45 لعام 1966، وقانون تحديد الملكية الزراعية رقم 31 لعام 1980. وكان لافتاً ورود اسم عدد من رجال الأعمال المغتربين أبرزهم موفق قداح، الذي تم بموجب قرار صدر مؤخراً، ونشر رسمياً إيذاناً ببدء تنفيذه، الاستيلاء على نحو 18 عقاراً له في محافظة درعا، و3 عقارات في محافظة حمص، بينما شملت القرارات الأخرى الخاصة بباقي المالكين الاستيلاء على عشرات ومئات العقارات الموزعة بين محافظات درعا، ريف دمشق، السويداء، وحمص.
ووفق ما نصت عليه قرارات الاستيلاء في مادتها الثانية، فإنه يحق «لكل ذي شأن مراجعة المحاكم العادية بطلب التعويض عمّا لحقه من ضرر جراء هذا الاستيلاء خلال مدة ثلاثين يوماً من تاريخ نشر هذا القرار بالجريدة الرسمية».
الاستيلاء على
مئات العقارات لرجال أعمال مغتربين

تروي مصادر لـ«الأخبار» بعضاً من خلفيات هذه القرارات، فتؤكد أنها قانونية، ولا تحمل أيّ غايات أو مواقف سياسية أو اقتصادية، إذ إن بعض هؤلاء المالكين كانوا قد منحوا في عام 2008، وبموجب مرسوم تشريعي، فرصة لاستثمار المساحات الزائدة عن نسب الملكية في مشاريع استثمارية وتنموية، وتم تحديد مهلة عامين لتنفيذ ذلك، إلا أنه رغم مرور ما يفوق تلك المهلة زمنياً، لم يلتزم المالكون بما تعهدوا به، وعلى ذلك كان أمام وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي خياران: إما تمديد العمل بالمرسوم المذكور، أو العودة إلى تطبيق قانون الإصلاح الزراعي والاستيلاء بشكل نهائي على المساحات الزائدة، وهذا ما حدث بالنظر إلى أن المؤشرات لم تكن مشجعة لجهة التزام المالكين المخالفين بتنفيذ مشاريع استثمارية، فيما لو تم تمديد العمل بالمرسوم الصادر في العام 2008، لا سيما في ظروف الحرب التي تشهدها البلاد. وهي الظروف التي حالت دون مباشرة بعض المستولى على أراضيهم تنفيذ المشاريع الاستثمارية، التي تعهدوا بها بموجب المرسوم الصادر عام 2008، كما يؤكد هؤلاء.
الحديث عن الإصلاح الزراعي عاد إلى الاهتمام الرسمي في منتصف العقد الماضي، عندما أصدرت وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي عدة قرارات تضمنت الاستيلاء بشكل أوّلي على أراض زائدة عن حدود الملكية الشخصية الزراعية في بعض المحافظات، وأتبعتها بمجموعة إجراءات وتعاميم إدارية هدفت إلى تذكير المالكين بأن مفعول قانون الإصلاح الزراعي وتعديلاته لم ينته بإنجاز عمليات الاستيلاء التي تمت في حينه، وهو الاعتقاد الذي أسهم في «بروز ظاهرة تملك بعض الأشخاص ملكيات كبيرة تزيد عن سقف الملكية، دون الأخذ بعين الاعتبار أن ذلك سوف يعرضهم لتطبيق أحكام القانون المذكور كونه نافذاً ومستمراً». لكن مضيّ الحكومة قدماً في استكمال إجراءات الإصلاح الزراعي بحق بعض المالكين رغم ظروف الأزمة، والتجاذبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية المتعلقة بالتوجهات الاقتصادية المستقبلية للبلاد، يطرح تساؤلات عن المغزى من إصدار تلك القرارات في وقت تتهم فيه الحكومات المتعاقبة منذ نحو عقد من الزمن بتنفيذ سياسات ليبرالية بحتة، لا سيما خلال السنوات الثلاث الأخيرة. كذلك فإن ذلك يطرح تساؤلات عن مستقبل الإصلاح الزراعي بعد أكثر من خمسة عقود من التطبيق، وما أظهرته الحرب من تصدع في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمناطق التي شهدت أكثر من غيرها توزيعاً للأراضي على الفلاحين. وهذا ما يرمي إليه الدكتور حسين القاضي وزير الصناعة السابق والأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق بقوله: إن «قانون الإصلاح الزراعي يحتاج وبكامله إلى إعادة نظر، لا سيما أن نتائجه الاقتصادية كانت مدمرة، كما أن منعكساته السياسية كانت أكثر سوءاً، حيث تحول الريف السوري من أرض خصبة لحزب البعث، إلى أرض خيّم عليها الفقر واليأس، فكانت صيداً سهلاً لأئمة متخلفين سيطر عليهم الفكر الوهابي، وهكذا تحول الريف ليكون «معارضاً» مع عدم إهمال العوامل الأخرى». ويضيف القاضي في تصريحه إلى «الأخبار»: «لذا فإن الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في القانون، كما أنه لا بد من دراسة المنعكسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتطبيق النصوص المعمول بها». كلام يجد قبولاً لدى شريحة واسعة من الاقتصاديين، لكونه يتجه نحو إصلاح آليات تطبيق سياسة الإصلاح الزراعي، ولا يتضمن إلغاءً لسقف الملكية بشكل نهائي، والذي إن حدث، فإنه يعني تهديد ما يقرب من 600 ألف فرصة عمل، وتعميق حالة الخلل التي بات الأمن الغذائي السوري يعاني منها منذ بداية سنوات الحرب.