يعيد الهجوم الانتحاري الذي استهدف موقعاً لحرس الحدود الأردني في منطقة الرقبان (عند مثلث الحدود العراقية ــ السورية ــ الأردنية) أوّل من أمس، تسليط الأضواء على الجنوب السوري، بعد خفوت حدّة المعارك في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، على خلفية الاتفاق الأردني ــ الروسي في تشرين الأول الماضي.
واستفاد الجيش خلال المرحلة الماضية من التفاهمات الدولية، مستعيداً السيطرة على مدينة الشيخ مسكين الاستراتيجية، وبلدة عتمان شمال مدينة درعا، والحفاظ على مواقعه التي استقرت بعد إفشال سلسلة هجمات على مواقعه تحت عنوان «عاصفة الجنوب».
وإذا كان الحديث عن تصعيد كبير على طول الجبهات مردّه إلى اهتزاز الاتفاقات الأميركية ــ الروسية، فإن جبهات الجنوب مرشّحة لحصول تصعيد كبير بين الجيش وحلفائه من جهة والفصائل المحسوبة على غرفة العمليات الأردنية «الموك» و«تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة» من جهة ثانية... فضلاً عن الحرب التي تخوضها فصائل «الموك» و«النصرة» ضد التنظيمات التي انضوت تحت مسمّى «جيش خالد بن الوليد» في حوض اليرموك، وعمادها «لواء شهداء اليرموك» و«حركة المثنّى»، والتي باتت تشكّل ذراعاً لتنظيم «داعش» في درعا.
ولم يعد خافياً لدى أكثر من مصدر أردني وسوري، اتصلت بهم «الأخبار»، شبه الانهيار الذي وصل إليه التفاهم الروسي ــ الأردني الذي كان محكوماً بالأصل بالتفاهم الروسي ــ الأميركي، ما يعني إعادة تفعيل دور غرفة «الموك» التي تضمّ ضباطاً أميركيين وسعوديين وبريطانيين وأردنيين وإماراتيين، وفي مرحلة معيّنة ضمت ضباطاً فرنسيين وباكستانيين، مع تنسيق شبه كامل مع ضباط الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، الذين باتوا يملكون مفاتيح الحل والربط في إدارة الفصائل الإرهابية العاملة في محافظة القنيطرة وريف درعا الغربي والشمالي.

«التآمر» الأردني والحزام الآمن

على مدى السنوات الماضية، لعب الأردن دور الظهير الخلفي للمسلحين في الجنوب، من التسليح والتدريب والعلاج والتمويل إلى التوجيه الميداني والعملياتي لهم من غرفة «الموك». وشكّلت مدن الزرقاء والرمثا والمفرق وإربد قواعد خلفية للإرهابيين وبيئة السلفية الجهادية الأردنية التي يميل عناصرها إلى الارتباط بـ«النصرة» أكثر من «داعش»، خصوصاً في ظلّ شبه الهيمنة التي يضطلع بها أمنيّو «النصرة» وأمراؤها ذوو الأصول الأردنية، على الجبهة في الجنوب.
ومرّت العلاقة الأردنية بالجماعات المسلّحة بحركة مدٍّ وجزر دائمين، كانت تظهر مع إغلاق الأردنيين الحدود لفترات قصيرة ووقف علاج الإرهابيين ومخصصاتهم بتأثير إعادة التواصل مع الجيش السوري والضغوط الشعبية الداخلية، ومن ثمّ إعادة فتحها ومدّهم مجدّداً بالأسلحة والتدريب، على وقع الضغوط السعودية والأميركية. وسبق للأردن أن استهدف المسلحين أكثر من مرّة في رسائل تحذيرية للحفاظ على الخطوط الحمراء المرسومة، ومن بينها معبر نصيب (وقتها)، كان أبرزها قصف الطائرات لسيارات رباعية الدفع تعود إلى إرهابيين قرب الحدود في منطقة الرويشد في نيسان 2014. ولاحقاً، مع سيطرة «داعش» على مدينة الموصل العراقية وقتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة، تعاظم الدور الأردني بدفع أميركي، وبدأ السعي إلى تشكيل جيش من العشائر والبدو في الجنوب، يمتدّ سلطانه إلى البادية السورية ــ العراقية ومحيط معبر التنف وصولاً إلى مدينة القائم الحدودية العراقية، مدعوماً بوحدات خاصة غربية، بالتزامن مع محاولات التأثير السياسي الأردني على جزء من العشائر السورية والعراقية. إلّا أن تجربة «لواء العشائر» لم تنجح (انتزع لواء شباب السنّة من لواء العشائر نقاط سيطرته على الخط الحربي الموازي لخط الحدود السورية الأردنية)، وأُعلن في تشرين الثاني الماضي عن نسخة «منقّحة» منه، باسم «جيش سوريا الجديد» الذي يقوده المدعو خزعل السرحان، بمشاركة وحدات خاصّة بريطانية وأردنية وأميركية. ولعلّ التحوّل الأبرز في تعاطي الأردن مع الجماعات الإرهابية في الجنوب، ظهر بعد «شبه تسليم» الأردن معبر نصيب الحدودي لإرهابيي «النصرة» وخروج الجيش منه، في دلالة واضحة على سقوط آخر أبواب التواصل التجاري والرسمي مع سوريا، وحرمان الأردن من 50 مليون دولار شهرياً من عائدات خط الترانزيت، والرضوخ للرغبات السعودية.

يلعب الأردن دور
الظهير الخلفي للمسلحين
في الجنوب

حتى الآن، لم تقدّم عمان تفسيراً واضحاً لطبيعة الهجوم الانتحاري على حرس الحدود في الرقبان. وهو الهجوم الرابع في غضون الأشهر الثلاثة الماضية، بعد الهجوم الأول انطلاقاً من مخيّم الوحدات للنازحين الفلسطينيين (شرق عمّان)، ثمّ الهجوم الذي أفشله الأمن في مخيّم إربد، والهجوم الثالث بداية رمضان الحالي على نقطة للاستخبارات على مدخل مخيّم البقعة شمال غرب عمّان، وأدى إلى مقتل خمسة عناصر من الاستخبارات. وتشير المعلومات، بحسب مصادر سياسية أردنية، إلى أن «عملية إربد كان هدفها السيطرة على كامل المخيّم، وإقامة مربّع أمني خطير لإحداث خلل كبير في الشمال». هجوم أوّل من أمس انطلق من مخيّم الرقبان، وهو مخيّم قديم أنشئ في عام 2003 لاحتواء النازحين العراقيين، ومن ثمّ للنازحين السوريين القادمين من الشرق السوري والجنوب والبدو، وينشط فيه عناصر السلفية الجهادية و«النصرة» بشكل كبير. وسبق للاستخبارات الأردنية أن أسكنت في المخيّم حوالى 920 مسلّحاً سورياً بعد الاتفاق الأردني ـــ الروسي، غالبيتهم من فصائل كانت تقاتل الجيش ومحسوبة على «المعارضة المعتدلة». وتستبعد مصادر أردنية وسورية متابعة أن يكون «داعش» هو المسؤول عن الهجوم، مشيرةً إلى العملية العسكرية التي شنها «جيش سوريا الجديد» ضد مسلحي «داعش» في التنف وإبعادهم عن المنطقة، في خطوة استباقية لعملية طرد «داعش» من مدينة الفلوجة العراقية، والخوف من انتقال جزء منهم إلى الحدود العراقية ــ السورية. وسبق للطائرات الروسية أن استهدفت مواقع «جيش سوريا الجديد» مرتين، يوم 16 حزيران الحالي، وتكرّر القصف في اليوم التالي، على الرغم من الاعتراض الأميركي، في إشارة إلى عدم الرضى الروسي عن المخططات الأميركية لمنطقة التنف. وفي حين تركت العملية الانتحارية قلقاً في الشارع، يشير أكثر من مصدر إلى ما أُعلن عنه قبل أيام، عن توجيه الأردن تعليمات للإرهابيين في الجنوب بالابتعاد عن خطّ الحدود مسافة لا تقلّ عن 7.5 كلم. وتربط المصادر بين الإعلان الأردني ومحاولة الاستفادة من الهجوم، لتنفيذ حزام آمن على الحدود مع سوريا، بعمق 8 كلم، تتولّى فصائل محسوبة على الأردن السيطرة عليه داخل الأراضي السورية، وإعلان الحدود الشمالية والشرقية منطقة عسكرية، بحجّة «الحفاظ على الأمن القومي الأردني». وتحذّر المصادر من «تمدّد السلفية الجهادية في مخيمات النازحين وبعض المدن الأردنية بعد إطلاق سراح كوادرها من السجون، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية على القضاء جذرياً على العناصر الإرهابيين، بينما تدعمهم في الجنوب السوري»، مشيرةً إلى ما تسمّيه «عملية إعادة إنتاج تنظيم الإخوان المسلمين في الأردن بعناوين جديدة».

عودة المعارك إلى الجنوب

تبرز عدّة مؤشّرات في الجنوب تدل على نيّة «الموك» و«النصرة» إعادة الهجوم على مواقع الجيش. وبحسب المعلومات، فإن «الموك» شرعت في تشكيل غرفة عمليات داخل الأراضي السورية، وتحديداً في فندق بصرى الشام الأثري، بمشاركة ضباط استخبارات أردنيين وغربيين. وتشير المعلومات الأمنية السورية إلى أن «الموك» أدخلت منظومتين للدفاع الجوي، واحدة تمّ تثبيتها في بصرى، والثانية في المنطقة الواقعة بين بلدتي النعيمة وصيدا قرب درعا، في محاولة لمنع الطائرات السورية من استهداف الإرهابيين مستقبلاً، وتنحصر إدارة المنظومتين بالخبراء الأردنيين والغربيين.
وفي المعلومات الأمنية أيضاً، تستعدّ الجماعات المسلّحة، وعلى رأسها «النصرة» بالتنسيق مع فصائل «الموك»، لإعادة الهجوم على بلدة خربة غزالة، التي تعدّ الشريان الحيوي لمدينة درعا، بالتزامن مع إعادة الهجوم على مدينة الشيخ مسكين، ومثلث «الموت» بين درعا والقنيطرة وريف دمشق، الذي استعاد الجيش السيطرة عليه في نهاية شباط من العام الماضي. أما في القنيطرة، فحتى الآن تظهر المعطيات نيّة للهجوم على مدينة البعث وعلى مواقع الجيش في جبا وتل كروم، تنفيذاً للأجندة الإسرائيلية بإسقاط آخر مواقع الجيش في المحافظة، والسيطرة على المناطق المأهولة كمدينتي البعث وخان أرنبة.
وتقول المصادر إن الإعداد الفعلي هو لـ«معركة خربة غزالة، حيث يحشد إرهابيّو (لواء شباب السنّة) قواتهم، وقاموا بحفر خندق هجومي حول بلدة الغارية الغربية». ودخلت في الأسابيع الماضية شحنات أسلحة من الأردن إلى المجموعات المسلحة، انتقل جزء منها إلى محيط خربة غزالة، وجزء آخر إلى محيط وادي اليرموك (تم نقل 47 آلية مزودة برشاشات ثقيلة إلى محيط حوض اليرموك)، حيث تشتد هجومات «النصرة» وفصائل «الموك» (فلوجة حوران، جيش اليرموك، لواء المجاهدين، أبابيل حوران) على «جيش خالد» من دون تحقيق نتائج تذكر. وسبق للمدفعية الأردنية أن شاركت في الهجوم الذي شُنّ على جيش خالد قبل ثلاثة أسابيع في قرى عين ذكر والشجرة والكويا ومعريا في حوض اليرموك.
الأردن، إذاً، يكتوي بنار الإرهاب داخل حدوده، لكنّه يستمر في دعم الإرهابيين لإسقاط مواقع الجيش السوري. فهل يملك خيار الابتعاد عن الرغبات السعودية والاستراتيجية الأميركية، أم ينتظر المصير السوري في الداخل؟




لتسليم قطر وتركيا ملفّ «الجنوب»

أشارت بعض الفصائل، إعلامياً، إلى العملية العسكرية المرتقبة، وأدخلتها في التداول، خصوصاً بعد إعلان عدد منها بيان «فزعة أهل حوران» أواخر الأسبوع الماضي، الذي طلبوا فيه من أهل حوران «تخفيف الضغط عن باقي المدن والمحافظات التي تتعرض لحملة همجية من قبل قوات النظام، والطائرات الروسية، والميليشيات الطائفية».
أما أبرز المعلقين، فكان القائد السابق في «النصرة»، صالح الحموي، المعروف على «تويتر» بـ«أس الصراع في الشام»، تحت وسم (هاشتاغ) «ندعم بيان فزعة حوران»، فغرّد أن «دمشق لن تُفتح إلا من درعا، ولن تتحرك درعا إلا بانقلاب أبيض على الموك». وحدّد الحموي «الانقلاب الأبيض» بـ«تحالف عشائري جغرافي فصائلي»، داعياً «الثورجية من وجهاء العشائر إلى إزاحة الوجهاء المؤيدين للنظام».
أما القادة التنفيذيون في فصائل الموك، بحسب الحموي، والذين لم يزوروا الأردن، فعليهم «البدء بسحب الجنود والسلاح لسيطرتهم، وعلى الفصائل الاسلامية مد يدها لقادة الموك الصادقين، والعاتق الأكبر يقع على أحرار الشام». وتوقّع «أس الصراع» «الرقود بعد العملية، إذ لم تسلّم قطر وتركيا ملف الجنوب السوري بتؤدة وحنكة، بعد أن يُسحب الملف من الأردن والإمارات».