الثورة هي السبب في تدهور أوضاعنا في تونس؛ هذا ملخّص ما يردّده كثير من التونسيين في أحاديث المقاهي وصفحات "فايسبوك"، وحتى في بعض منابر الإعلام. بل إنّ البائع المتجوّل محمد البوعزيزي كان عليه في هذا المنظور أن يخضع لسلطة العون البلديّ وألّا يُحرق جسده في ذاك الشتاء الذي يبدو بعيداً. بل كان على الناس أن يتقبّلوا الأمر على أنّه قضاء وقدر وأن ينصرفوا إلى شؤونهم وكأنّ شيئاً لم يكن، فلم يكن البوعزيزي أوّل ضحايا البوليس والبطالة والقهر في تونس، بل كان عليهم عوض الانتفاض أن يثقوا بعدالة القضاء وحكمة رئيس الدولة.ولم يكن ضرورياً أن يحتلّوا الشوارع والفضاء العامّ وأن يوجهوا إلى البوليس وسياراته ومقارّه ذاك السيل من الحجارة والشتائم والشعارات المخلّة بالنظام العامّ، وأن يتجنّبوا تلك الشعارات المحمّلة بعبارات الاحتجاج على الزبونية والفساد والبطالة وسوء التوزيع لثروات البلاد. أليس في ذلك تضخيم للأمر وتهويل له؟ وماذا غنمنا؟ هل انتهى الفساد برحيل بن علي وانتهاء سطوة عائلته وأصهاره؟ وهل وُزّعت الثروات بنحو أعدل بين الجهات وبين الأفراد؟ وهل تلاشت البطالة؟ هل صار القضاء مستقلاً؟ وهل عاد البوليس إلى وظيفته الأصلية في حماية البلاد والعباد والسهر على الأمن العامّ؟ وهل تقلّصت نِسب الانتحار والهجرة السرّية والإدمان وتخريب القطاع العامّ؟ وهل صار الإعلام ــ في الحالة الديموقراطية التي تزعمون ــ صوتاً للمواطن ومشاغله؟ وهل تقلّصت نسبة الأمّية وتطوّر التعليم العمومي وتحوّل التونسيّون إلى مواطنين متساوين في الحقوق وفي الفرص ومتساوين أمام القانون؟ بل ألم يكن البوعزيزي سبب ظهور التكفيريين وإرهابهم؟
هذا تلخيص مخلّ لحالة من "التحليل السياسي" لم تعد حكراً على من مكّنتهم ثورة الميديا من احتلال جزء من فضاء التعبير بفضل ديموقراطية "فايسبوك"، ولا على بعض النخب المغتاظة من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي أطاح الرئيس بن علي. "تحليل سياسي" يطغى عليه حنين لا يخفى إلى أيام الاستقرار السياسي والطفرة الاقتصادية وارتفاع مؤشرات التعليم والصحة والثقافة وارتفاع راية تونس في المحافل الأممية... وكلّ تلك العبارات التي طالما قصفت التونسيين من منابر الإعلام الرسميّة والمنابر الشقيقة والصديقة في الشرق والغرب بفضل ما كانت السلطة التونسية تدفعه من أموال التونسيين لبعض الصحف والمواقع ومحطات التلفزيون والراديو التي لا تسمع ولا ترى إلا بجيوبها، أمّا حقوق الإنسان ومراقبة السلطة وتعددية الأحزاب وانفتاح الإعلام وتحوّل المواطنين إلى رعايا، فهذه أمور لا تليق بحضارتنا وتاريخنا، وهي مشتقّة من أجندات الاستعمار والصهيونية ولا تخدم إلا مصالحها.
الثورة المضادّة في تونس استطاعت في ظرف وجيز أن تلملم جراحها، وأن تحوّل أهمّ نقطة في الثورة التونسيّة، وهي غياب قيادة مركزية لها إلى نقطة ضعف إن لم نقل إلى مقتل. في المقابل، نشطت مواقع الضغط والتأثير في النظام السابق ممثّلة في القدرة على التنظيم، وامتلاك مراكز القرار في الإدارة وفي السوق المالية، بل في مواقع عليا في جهاز العدالة وجهاز البوليس، فضلاً عن أصحاب رؤوس الأموال الذين راكموا ثرواتهم من العمل لفائدة عائلة بن علي أو من التهريب والفساد بأنواعه، من أجل إفشال أيّ مسار حقيقيّ نحو القطع مع النظام الذي حكم حكماً مطلقاً لأكثر من خمسين عاماً، معتبراً تونس مجرّد ضيعة توفّر له المال واليد العاملة الرخيصة وفخامة الصفات. الثورة المضادّة استفادت من منظومة الإعلام القديمة وخبرتها في تحويل الأنظار عن المشاغل العميقة للبلاد، وقدرتها على التشويه والحملات الممنهجة، والشيطنة من ناحية والتبرير من ناحية أخرى، فصار تحالف الفاسدين مالياً والضالعين في القمع والتعذيب وحجب الحرّيات مع المبرّرين والمتواطئين تحالفاً أوسع ممّا كان زمن الديكتاتورية، شمل إلى جانب "الدستوريين" أصنافاً من "أعدائهم" السابقين من إسلاميين وقوميين وحتى الشيوعيين.
الثورة التونسيّة بشكلها المستحدث، وتبنّيها لخطاب حقوق الإنسان، وإدانتها لأشكال الدكتاتورية، يراد لها أن تبقى ديكوراً للثورة المضادّة التي تعتزّ بها باعتبارها شيئاً مميّزاً تماماً كمسرح قرطاج أو شواطئ جزيرة جربة وقابلة للاستثمار مثلهما. الثورة التونسية التي كان لها صدى مزلزل في بلاد العرب وما يحيط بها يراد لها الوأد وخيبة المسعى، بين من يريد تحجيبها باعتباره حرمة لا يجوز لها كشف وجهها، وبين من يريد وجهها زينة لتحقيق أغراض معاكسة لها بمنطق: "كوني جميلة واسكتي".