"والله يا ستي بعدني على لحم بطني"، هذه هي أشهر جملة كنا نسمعها من سودة حين يقترب موعد آذان المغرب في رمضان.اعتادت سودة أن تنادي عليّ كل يوم في شهر رمضان و تحمّلني طنجرة ألمنيوم صغيرة و ترسلني الى باب المخيم حيث كانت تأتي شاحنة توزع حصصاً من الأرز باللحم المفروم بنكهة الفلفل الأسمر الحار. أعود بها الى دار سيدي فتتناولها سودة على عجل من يدي و تضعها على الغاز، ريثما يجري تحضير السفرة بأكملها.
كنا نتناول الفطور في غرفة سودة، التي تفصلها عن غرفة جدي شباك صغير، على الأرض. نجلب "الطراريح" (الفرش الخفيف) نصفه على شكل مستطيل وفي داخله نمد شرشف الطعام. وحالما يبدأ الشيخ في الجامع بتلاوة القرآن قبل الآذان، نهرع الى فوق. انا واخوتي نتناول الصحون من أمي وأولاد عمي يتناولون طبيخ أمهم. نحملها و ننزل مهرولين على الدرج ، فتصرخ بنا جدتي :"ولك انت وياها وياه وياه، إهدوا عاد..! إسا بتوقعوا الأكل بخليكو صايمين لبكرا ها"!
نهدأ ونمثل أمامها اننا لسنا متسرعين، وأننا سمعنا كلامها، وحالما نخرج من الغرفة نركض مجدداً الى فوق لنحضر المزيد من الأطباق. أصبح كل شيء جاهز، امي تخلط الفتوش مع الخبز المقلي وزوجة عمي تسكب الحساء في الكاسات الزجاجية الشفافة. "ضرب المدفع.. ضرب المدفع" يصرخ ابن عمي متحمساً في الخارج (لقد كان يقف في الوقت نفسه كل يوم ليسمع صوت المدفع ويتحمس في كل مرة وهو يخبرنا بأن المدفع ضُرب!) ونحن حين نسمع صراخه، نمطر أمي بالأسئلة: "أمي، ضرب المدفع.. فينا نشرب مي؟" فتجيبنا مثل كل يوم: "واذا ضرب المدفع انطروا دقيقة وحدة ليأذن". ومثل كل يوم تتعارك سودة مع أمي ساخرة "من يومنا منفطر على صوت المدفع، وبركي الشيخ تأخر بالطلعة عالميدنة بيضلوا الأولاد ناطرينه؟! اشربوا تردوش على إمكو" فترمقنا أمي بنظرات مفادها "حسابكو بعدين".
اكلنا التمر و شربنا الكثير من الماء بانتظار جدي وعمي و أبي، فهم يصلّون قبل الفطور. و كان علينا ان ننتظر الجميع حتى نبدأ بالأكل، نظرت الى المائدة لأسكب من الأرز باللحم الذي كانت رائحته معششة في أنفي و أنا أشمه طوال الطريق الى البيت، فرأيت صحناً واحداً بجانب جدي، نظرت الى كل الصحون الموجودة على المائدة، ليس هناك أرز باللحم سوى صحن صغير. سألت سودة أين طنجرة الأرز باللحم التي جلبتها منذ قليل، ففاجأتني قائلة "مش حضرتك وقعتي منها ع الطريق"!
نظرت اليها مستغربة ما قالته وحالما فتحت فمي لأجيبها بأنني لم أفعل ذلك وان الطنجرة كانت "طافحة"(ممتلئة) فقرصتني أختي من فخذي وهمست لي "اسكتي، خلص تحكيش اشي". حاولت أن اخبرها ان ليس هذا ما حصل فقالت انها تصدقني. دهشت بأن أمي و أبي لم يقولا شيئا، فلو كنت قد أوقعت فعلاً الأرز في طريقي الى المنزل، لكانا أول من يوبخني. صمتّ وأكملت فطوري لكني لم آكل من الأرز يومها.
بعد الفطور، كنا نحضر صواني الفاكهة الى الغرفة عينها، فتطلب سودة من أختي الكبرى أن تناولها برتقالة، سكينا و رغيفاَ من الخبز. أجلاَ، كانت سودة الشخص الوحيد الذي يأكل الليمون بالخبز! لكن كل ذلك لم يكن ليهمني في تلك الليلة. لم أضحك مع اخوتي و اولاد عمي على سودة وهي تضع قطعة البرتقال بالخبز. كنت مأخوذة بمراجعة ما جرى خلال الفطور، فذهبت الى اختي التي كانت تعد القهوة في مطبخ سودة و سألتها لماذا أسكتتني و لم تدعني أجيب سودة، فضحكت و قالت:" بعرف انك ما وقعتيهن، بس ستك أكلت نص الطنجرة قبل الفطور"!
و كانت سودة تمثل علينا سلوك الصيام بأكمله، بما فيها جملتها المعتادة "والله يا ستي بعدني على لحم بطني" وهي تأكل التمر عند سماع المدفع مثلنا!