لم تدخل هناء مخيم برج البراجنة يوماً. إلا أن هذا المكان الحافل بكل ما فيه استضافها في ذلك الصباح بدون دعوة مسبقة. قاصدة برج البراجنة لإنجاز معاملة، ومع زحمة السير الصباحية واقتناعها بأن كل الطرق ستؤدي الى الطاحون، قررت اختصار الطريق لتجد نفسها في طريق ضيق يؤدي الى طريق أضيق، وهكذا. بعد لف ودوران وعودة الى النقطة ذاتها، ساعدها أحد الشبان في معرفة طريق الخروج الذي أوصلها الى قرب شارع عبد النور في الرويس لتعود الى برج البراجنة. بالنسبة إليها، تعلمت درساً في "السواقة" لم تكن لتتعلمه لولا خوضها تجربة الصباح في المخيم المزدحم بناسه وأبنيته حد عدم إمكانية مرور سيارة، إلا إذا كانت صغيرة كسيارتها. بالنسبة إليها، كانت تظن أن الطرق في حي السلم والشياح هي الاضيق على الاطلاق. إلا أن اكتشافها ذاك غير مفهوم اتساع الطريق في مخيلتها.
بعد تدقيق في مسار رحلتها، تبين أنها لم تدخل في أزقة المخيم حيث لا يمكن أن تمر سيارة، بل هي مرت فقط في طرقاته الخارجية! هذه الطرقات التي تكاد تطبق على المارة والقاطنين.
في بلاد تغني الثورة الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني إلى حين عودته الى الديار، لا يجد فيها الفلسطيني طريقاً يؤدي الى بيته إلا زقاقاً يفيض بمياه الصرف الصحي صيفاً، وشتاءً يفيض بالامطار ممزوجة بالصرف الصحي وغيره. هي ليست أزمة تنظيم مدني تحتاج إليها معظم مناطق لبنان بقدر ما هي نوع من تضييق الخناق على شعب يراه "الفينيقيون" غريباً ويراه بعض الجيران دخيلاً، ليبقى المحبون في موقع العاجز عن توفير الحد الأدنى من التنظيم، على الاقل في ما يتعلق بالبنى التحتية للمخيمات.
هذه البنى التحتية التي تزداد سوءاً عاماً بعد عام، ولا سيما أنها تأتي خارج نطاق جغرافيا الانتخاب واستجلاب الاصوات بالزفت حيناً وبتمديدات المجاري أحياناً، ما يضيف الى كاهل المقيمين في المخيمات، من فلسطينيين ولبنانيين، عبء صعوبة الحركة المقيدة تقنياً بطرقات هي أشبه بزواريب، وبالتالي تصبح المواصلات داخل المخيم وإليه شبه مستحيلة.
ليس في كل ذلك جديد ربما. لا بل انه قد يبدو مجرد تفصيل في مسار المعاناة الفلسطينية على الاراضي اللبنانية. لكن، من زاوية أخرى، يتبين أن هذا التفصيل، المتعمد حد الاشتباه، حجر أساس بُنيت عليه الكثير من الاساطير حول المخيمات. ومنها، انه "الهناك" حيث لا تجرؤ سيارة غريبة على الدخول! يطرح السؤال نفسه. صحيح!؟ فالمكان بمعظمه غير مجهز لمرور آمن تقنياً للسيارات فلا يمر الا المضطر. أو مثلاً، يختبئ المجرمون في المخيم، وتتجمع قوى الشر من تجار مخدرات وسلاح!؟ أوليس ذلك صحيحاً؟! بلى، ليس رغبة من أبناء المخيم في إيوائهم بل لملاءمة المكان، تقنياً أيضاً، للاختباء بعيداً عن إمكانية وصول أي جهة بالمركبات المخصصة للقبض على المجرمين، أو على الاقل ملائم لأخذ العلم بتوجه دورية الى المكان قبل وصولها بساعات، نظراً إلى ضيق الطرقات!

أسطورة أخرى

في المخيم يوجد "الزعران يللي ما عندهم لا شغلة ولا عملة"! على أساس أنه في باقي المناطق الفقيرة، وفي الضواحي عموماً، تجد العاطلين من العمل يمارسون الاعمال الفنية من رسم ونحت وتأليف وعزف موسيقي في الطرقات، ريثما يجدون عملاً يملأ فراغ أوقاتهم.
يكاد شر البلية هذا يكون مضحكاً لولا علمك المسبق بأنه ممنوع على الفلسطيني العمل في لبنان إلا في قائمة مهن يجب أن يتعلمها كل أبناء فلسطين في مخيمات لبنان ثم يعملون بها بالتناوب كي يمر الدور على الجميع.
هي دوامة تشبه دوامة الطرقات التي سلكتها هناء وعادت بها في كل مرة الى النقطة نفسها. النقطة التي لا يعرفها إلا من قضى عمراً يدور حولها، أو من دار حولها عمراً ثم وجد طريقاً للخروج.. فخرج وفي جعته درساً لم يقصده ولم يسع اليه، تسميه هناء تعلم "السواقة" في الطرقات الاصعب، ويسميه الفلسطينيون "لا بديل من حق العودة"، ويترجمه العم أبو خالد : "بلادكم أد ما تكون واسعة ما بدنا ياها وطن... كيف لو ضيقة ومعتمة متل طريق ما بيودي إلا ع القهر؟!".