تونس | «عودة الزعيم» هل نغلق ملفات حكمه المطلق؟

  • 0
  • ض
  • ض

لا حديث هذه الأيام إلا عن إعادة نصب الزعيم بورقيبة، وكأن ذلك يقدّم حلولاً لمشاكل البلاد المتعاظمة. وهو الأمر الذي جعل اللامبالاة هي الرد الوحيد تقريباً في الشارع التونسي على حدث يسعى أساساً إلى التأثير إعلامياً في الخارج

ظلّ بورقيبة محور اهتمام، وطنيا وعالميا، منذ بداياته السياسية، أي منذ أكثر من ثمانين عام. فقد شدّ الانتباه وهو محام شابّ عندما انتقد المطالبين بتحرّر المرأة التونسية من الحجاب، مدافعا عنه باعتباره مظهرا من مظاهر الشخصية التونسية والهوية العربية الإسلامية لتونس، وأسهم في معركة التجنيس وساند رفض المحافظين لدفن من اختاروا الجنسية الفرنسية في مقابر المسلمين.

وشدّ الانتباه عندما حرّرته قوّات المحور من سجنه الفرنسي، فيما كان يبثّ رسائل إلى مناصري حزبه بعدم الوقوف إلى جانب المحور في الحرب العالمية الثانية، داعياً إلى مساندة الحلفاء وفرنسا الذين تحتل قواتهم جزءا من بلده. وشدّ الانتباه أكثر وهو يباشر حكم بلاده بإلغاء المجلس التأسيسي للحكم الملكي، وخلع الباي الذي وقّع بعث هذا المجلس وانتخابه، وترشح وحده عديد المرات، ولما طالب البعض بتعددية الترشح كان الردّ لافتا هو الآخر: إعلان البقاء في الحكم مدى الحياة.


لم تكن إعادة النصب
واردة عند أكثر المتفائلين
بين البورقيبيين

وشدّ الانتباه بجرأته في قراءته للسرطان الصهيوني وكيفية التعامل مع دولته، مطالبا ــ بشكل مبكر ــ بقبول التقسيم الأممي لفلسطين، ونفوره من الخطاب القومي لعبد الناصر أساساً، معتبرا أنه خطاب تشنّج وحماسة ولا يوصل إلا إلى ضياع بقية فلسطين. وكانت قراءته للدين الإسلامي ممّا جلب إليه انقساما في الرأي العامّ وطنيا ودوليا، فـ"أفتى" بأنّ تجريم زواج الرجل بأكثر من امرأة مستلهم من قراءة للنص القرآني، وأنّه يمكن إلغاء الصيام في شهر رمضان باعتبار أنّ تأسيس الدولة الحديثة يتطلّب عملا ويقظة هما في حقيقتهما جهاد، ومن حقّ المجاهد الإفطار.
في غياب قياديين حقيقيين كان يمكن أن يشكّلوا بديلا للرئيس بن علي، لا في صفوف حزبه ولا في قيادات المعارضة، كانت ثورة تونس (بين نهاية كانون الأول/ديسمبر 2010، وبداية كانون الثاني/جانفي 2011) استثنائية في تلقائيتها وقيادة الشباب لها. لكنّ تعثّر الثورة يكمن في ما يكمن في غياب هكذا قيادات، بل وفي تهليل الشارع لتولي الباجي قائد السبسي مقاليد الحكومة في 2011 ليتمكّن بكثير من الحكمة واستحضار الزعيم بورقيبة الرئيس المؤسس للجمهورية في عباراته وحتى في حركات اليد والوجه واللباس، ما بثّ كثيراً من الأمل في التونسيين الذين لا يعرفون في أغلبيتهم الزعيم بورقيبة إلا من خلال الصور أو من خلال ما كرّسه عنه الإعلام الرسمي وآلة الدعاية في عهده الطويل.
آلة الدعاية التي عادت مع حكومة الباجي، أظهرت بورقيبة زعيما أوحد وذا حكمة فريدة، و"نبيّا" من أنبياء الحداثة والتطوّر، دون أن تجهد نفسها لاستبيان لماذا كان انقلاب بن علي عليه سنة 1987 محل ترحاب من أغلب التونسيين، بل كان رحمة بتاريخ الرجل وإيجابياته. نجاح الباجي في طمأنة التونسيين لم يكن مجرّد خطاب سياسي ولا دعاية، إذ استطاع الرجل أن يضع شروط النجاح لأوّل انتخابات في تاريخ تونس المستقلة جرى عبرها تداول الحكم، وأكد العالم نزاهتها عبر المنظمات التي راقبتها برغم أسئلة المال السياسي المتهاطل على هذا الحزب أوذاك. وهي الأسئلة التي ستبقى تجمجم في بعض الأفئدة، تماما كسؤال: من كان أولئك الذين قتلوا أبناء الشعب خلال تلك الثورة، والذين قال عنهم قائد السبسي عندما كان رئيسا للحكومة: إنّ "القناصة إشاعة، ومن يجد قنّاصا فليأتني به".

بورقيبة طريقاً إلى الحكم

إنّ سؤال "لماذا عاد قائد السبسي إلى واجهة الأحداث وكوّن حزبا حقّق رقما قياسيا في القفز ضوئيا من النشأة إلى كسب أغلبية برلمانية وافتكاك رئاسة الدولة؟"، هو من الأسئلة التي لا ينبغي الاستخفاف بالإجابة عنها في مقال أو حتى دراسة، لأنّ العوامل متعددة وكثيرة ومتشعبة وفيها ما يتعلق بالشأن الوطني وفيها ما يرتبط بالوضع الإقليمي والدولي. والأكيد أن فيها السياسي والاقتصادي والجهوي والاجتماعي، والنفسانيّ أساسا.
الجانب النفسانيّ هو أساس العملية الدعائية التي عملت على شيطنة الخصم، أي الرئيس المنتهية مهماته المنصف المرزوقي، وإظهاره حليفا للحزب الإسلامي، بل ولـ"الدواعش" أيضا، وللامبريالية والصهيونية العالمية، لكنّ الجانب الأهم في الدعاية حينها كان: ننتخب قائد السبسي لأنه الأقرب إلى بورقيبة، والأَولى بحفظ المنجزات البورقيبية في التحديث والتطوير، وحفظ مكانة المرأة التونسية وحفظ "نمط العيش" التونسي... ننتخب قائد السبسي كي لا يؤول الحكم الى حلفاء المرزوقي الذين يريدون تحطيم الشخصية التونسية وعودة الخلافة وحجب النساء ودمار الديموقراطية. حلفاء المرزوقي في الدعاية "السبسية" هم الإسلاميون من حزب "حركة النهضة" طبعا، لكن هؤلاء هم الذين اختار قائد السبسي بعد أسابيع قليلة من جلوسه على مقعد الرئاسة أن يكونوا شركاءه في الحكومة التي كوّنها حزبه... فماذا كسبوا؟

عودة النصب: ثمن التوافق مع الإسلاميين؟

لا يمكن أن ننكر أنّ إعادة نصب الزعيم بورقيبة من منفاه الذي اختاره له الرئيس المخلوع (بن علي) في مدينة حلق الوادي التي تبعد بضعة كيلومترات عن مكانه السابق (وهي رحلة كلّفت خزينة الدولة ما يعادل 300 ألف دولار تقريباً)، لم تكن واردة عند أكثر المتفائلين في صفوف البورقيبيين. ولا يمكن إنكار أنّ تحالف رئيس الجمهورية مع هؤلاء الإسلاميين من العوامل التي يسّرت عملية الإعادة. فهل يمكن الاكتفاء بهذا الإنجاز؟ هل نعفي هيئة الحقيقة والكرامة من فتح ملفات العهد البورقيبي وما فيه من تصفيات جسدية للخصوم حتى من الحزب نفسه؟ ومئات القتلى برصاص الجيش بأوامر من قائده العام الحبيب بورقيبة؟ والمحاكم اللادستورية التي أرسلت بآلاف الشباب من القوميين والشيوعيين ثم الإسلاميين إلى السجون والتعذيب؟ ودفعت عشرات الآلاف إلى اللجوء خارج البلاد؟ وانتزاع أملاك الناس ومصادرتها؟ وحكم الشعب دون فرصة للانتخاب الحر في الرئاسة والبرلمان والبلديات والجمعيات وعبادة الشخصية وتقديس الذات؟
خوفي أن يسقط حكم قائد السبسي بالتصويت، أو بغيره، وألا يبقى من إنجازاته إلا نصب تذكاريّ لسيده الذي علّمه السياسة، والذي لم يظفر منه حين كان في بيته/سجنه طيلة 13 عاما ولو بكلمة تعاطف حين كان (السبسي) رئيسا لبرلمان بن علي. نصب تذكاريّ لا أحد يشكّ في أنه سينقل نهائيا مع أول انتفاضة أو تعديل في رياح الدولة.

0 تعليق

التعليقات