أن يخرج سوري من بيته ولا يعود إليه فهذا أمر لم يعد جديداً في بلد استباحت الحرب كلّ ما فيه. أمّا أن تتعرّف عائلةٌ على جثمان ابنها الشهيد في أحد المشافي، وتقوم بترتيبات الدفن ثم تعود لاستلام الجثمان فتفاجأ باختفائه فتلك مصيبة إضافيّة. التفاصيل الغريبة التي عايشَتها عائلة الشهيد علي لولو (28 سنة) من أبناء مدينة جبلة تطرح إشارات استفهام كثيرة، وتفتح باب احتمالات أهون شرورها ضياع الجثمان، وأكبرها سرقته لأسباب لا يصعب تخمينها. كان علي الشاب الوحيد في أسرةٍ تضم إلى جانبه شقيقتين وأمّاً وأباً.

يحمل الشهيد شهادة الثانوية الصناعية ويعمل مع عمه في محل لبيع الفاكهة في كاراج جبلة. موجزُ القصّة أنّ الشاب استُشهد إثر واحدٍ من تفجيرات جبلة، وبعد ساعة من استشهاده تعرّفت أسرته على جثمانه في مشفى الحكمة الخاص خالياً من أي تشوّهات مع إصابةٍ في مؤخّرة الرّأس فحسب، لكنّ الجثمان اختفى بعد ساعات وما زال قبرُ عليّ فارغاً حتّى اللحظة. أمّا التفاصيل فيسردها لـ«الأخبار» محمد لولو (والد الشهيد) بصوتٍ يحاول التماسك رغم كل شيء. «في صبيحة التفجيرات خرجت من المنزل، وبعد قليل سُمع صوت التفجير الأول. سارعت إلى الاتصال بعلي» يقول الأب المكلوم، ويضيف «بالأوّل برد قلبي لما سمعت صوتو، قلتلو وينك يا بابا؟ قال: بالكاراج. قلتلو: وهالتفجير وين صار؟ قال: هون، وتفجير قوي كتير كتير. قلتلو يا بابا، الله يرضى عليك اطلع من الكراج فوراً». حين أنهى الأب الاتصال لم يكن ليعرف أنّها آخر مرة يسمع فيها صوت وحيده، دقائق قليلةٌ بعدها ودوّى التفجير الثاني. «رجعت اتصلت لأتطمن وين صار الصبي، وإذ بيردو علي وبيقولولي: صاحب التليفون استشهد». استجمع الرجل المفجوع قواه وانطلق بعد وقت قصير رفقةَ اثنين من المقرّبين نحو المشفى الوطني في جبلة، ليكتشفوا أنّ قسم الإسعاف قد تعرّض لاعتداء إرهابي بدوره. «كنا أنا وأخي وجارنا، رحنا فوراً عمشفى الحكمة، فات أخي ورجع خبّرني إنو جثة علي جوّا».



حطّيت إيدي بإيدو وقلتلو: الله يرحمك ويعفي عنك يا بابا

سارع الأب بدوره إلى التعرّف على جثمان ابنه، «شفتو، حطّيت إيدي بإيدو وحكّيتو... قلتلو: الله يرحمك ويعفي عنك يا بابا». قام الأب ببعض الإجراءات الروتينيّة، عرّف العاملين في المشفى بنفسه وفق الأصول «سجلو عندهم: الشهيد علي لولو، تعرّف عليه أبوه محمّد لولو». يقول الأب، ويتابع «في شب من المشفى قال لي: يا عم طالما تعرفت عالجثمان خود أغراض الشهيد، ونحن هلأ منحط اللصاقة والتعريف عالجثمان. أخدنا الأغراض: خاتمو اللي كان بإيدو ليكو هلأ بإيدي، جزدانو معي، امبارح بالليل وقعت منو حبة خردق، أوراقو والمصاري اللي كانو معو ليكهم مليانين دم». غادر ذوو الشهيد مشفى الحكمة لإنهاء ترتيبات التشييع والدفن على أن يعودوا لاستلام الجثمان «عملنا كل شي، خبرنا الأهل، حجزنا الصالة مشان العزا، سألني أخي: أي ساعة بدنا نعمل التشييع؟ مشان نكتب عالنّعوة (ورقة النعي). قلتلو: أخي روح شوف المشفى ايمتى فينا نستلم الجثة». التحوّل المفاجئ في المُجريات بدأ مع وصول عم الشهيد إلى المشفى «قالولو الجثة مو هون، الهلال الأحمر أخدوها. سألهم: لوين؟ قالو: ما منعرف». يروي الأب أنّ أحد العاملين في المشفى أكّد وجود جثمان علي بين الجثامين التي نقلها فريق الإسعاف التابع لمنظمة الهلال الأحمر: «شافوه لما تكفن وانحطت اللصاقة (التعريف)». ذهب ذوو الشّهيد إلى اللاذقية سعياً وراء جثمان شهيدهم، لكنّهم دخلوا في دوّامة من البحث من دون طائل! يصمت الأب لحظات، ثم يكمل روايته: « ما في شي، ما في شي، ماااا في شي. ابني لحد اليوم (أمس) مو مبين لا بمشفى عسكري ولا بمشفى وطني ولا بمشفى خاص»! بطبيعة الحال لم تدّخر العائلة جهداً في البحث، من جبلة إلى اللاذقية، وحتى القرداحة وبانياس «صرلنا 3 أيام عم ندور عالفاضي. ابني الشهيد علي شب طول بعرض، وزنه 130 طولو 190 وما عم نلاقي جثتو. كأن عم ندوّر على إبرة بكومة قش». يروي الأب تفاصيل كثيرة، من بينها أقوال على لسان عامل في المشفى «قلي: نحن 6 أشخاص تساعدنا لحتى قدرنا نحمل جثة ابنك، وحطيناها بالسيارة». كذلك؛ سمعت الأسرة كلاماً كثيراً على لسان «شهود من مشفى الحكمة قالو إنو أجا شخص عرّف عن حالو إنو دكتور من الهلال الأحمر، ولما طلبوا منو أوراق ثبوتية جاوبهن: ما فيه داعي لهالشكليات». يقول الأب «الهلال الأحمر عم يتهربوا، وعم يقولو نحن سلمنا الجثث للمشفى العسكري. وبالمشفى العسكري ما في شي. مع العلم في شهيد تاني من اللي نقلهم الهلال استلموه أهلو ودفنوه. بس ابني ضاع». حتى نهاية الدوام الرسمي ليوم أمس الخميس لم تصل عائلة الشهيد إلى «رأس خيط»، تجاوزوا البحث في المشافي إلى «تقديم شكوى»، وما زالوا يتابعون البحث. يقول الأب: «أنا ما عاد أعرف شي بالدنيا. أعمامو وأزواج عماتو عم يبرمو ويدورو عليه. أنا هون بالبيت، ما عاد عندي لا عقل ولا إيدين ولا رجلين».


عند «الهلال» ما من خبر يقين


بعد انتشار خبر اختفاء جثمان علي، سرت أقاويل كثيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن حالات مماثلة لفقدان جثامين عدد من شهداء التفجيرات، من بينها أربعة جثامين لشهداء من قرية بعبدة. وفيما تواصل «الأخبار» التثبّت من تلك الأنباء كان لا بدّ من التواصل مع كوادر منظمة «الهلال الأحمر» للوقوف على روايتهم في شأن جثمان الشهيد علي لولو. «منسق فريق الإسعاف في فرع اللاذقية» طلب أوّل الأمر أن «تُرتّب موعداً في مقر الفرع للحديث في الموضوع. بهيك قصص يُفضل نلتقي بالفرع ونحكي». قلنا «هو سؤال سريع، وهذا موضوع لا يحتمل التأجيل»، فأجاب «أكيد عندي فكرة، أنا مُشرف وكنت عالأرض. بس ما فيني أحكي شي، رئيس الفرع هو الوحيد المخوّل لأنه متحدث رسمي باسم الفرع». أما رئيس فرع «الهلال الأحمر في اللاذقية» فأحالنا إلى «مُنسّق عمليات الكوارث» لأن «مُنسق الإسعاف ما كان عالأرض، منسق الكوارث هو اللي كان عالأرض». بدوره، يؤكّد الأخير أنّه «غير مخوّل بالتحدث إلى الإعلام والإدلاء بتصريحات رسميّة». في الوقت ذاته تؤكّد مصادر أخرى من داخل «فرع الهلال» لـ«الأخبار» أنّ «الهلال الأحمر ليس الجهة الوحيدة التي نقلت الجثامين». توضح المصادر أنّ «فريق الإسعاف سارع للاستجابة اللازمة إلى جانب االمؤسسات الحكومية الرسميّة ممثّلة بمديرية الصحة». وتضيف «حين طلبت المساعدة على نقل الجثامين توجّه فريق الهلال إلى مشفى الحكمة، ونقل أربعة جثامين جرى تسليمُها إلى المشفى العسكري في اللاذقيّة».

بين هذا وذاك، تبقى حقيقة واضحةٌ لا تحتمل التأويلات جاءت على لسان والد الشهيد علي وبقلب محروق «ابني تعرفت على جثتو وسلمتهم ياه شهيد، معقول هلأ روح جبلو شهادة وفاة على أساس إنو مفقود؟! ما بقي عدالة بهالبلد؟ والله شي بيجنن».