صنعاء | بعد 26 عاماً من تحقيق الوحدة بين الشمال والجنوب، يمكن القول إن فصل الجنوب عن صنعاء أصبح واقعاً ميدانياً منذ أشهر عدة حتى قبل إعلانه المزمع اليوم من قبل الحراك الجنوبي المحسوب على الرئيس السابق علي سالم البيض.


ويأتي احتمال استعادة الدولة الجنوبية بعد تسع سنوات من «نضال» الحراك الجنوبي الذي أطلق عام 2007 مطلبه المتّسم آنذاك بطابع حقوقي.
في حينه، دشّنت جمعية المتقاعدين العسكريين التحركات بزعامة العميد ناصر النوبة، أحد المسرّحين من أعمالهم في الجيش اليمني. ثم اتسع نطاق الاحتجاجات، ما دفع السلطات الأمنية في نيسان 2008 إلى تنفيذ حملة اعتقالات طاولت 12 من قيادة الحراك الجنوبي، منهم أحمد بن فريد، علي الغريب، وحسن باعوم، الأمر الذي أجّج مشاعر الغضب ضد الوحدة لمصلحة الانفصال.
ثم ارتفعت الأصوات المطالبة بالانفصال، وبدأت أعلام الدولة الجنوبية المنحلّة بالعودة إلى الارتفاع في مدن الجنوب بالتدريج.ومع اتساع رقعة الحراك الشعبي مطلع عام 2009، عاد عدد من القيادات التي توارت عن الأنظار بعد «حرب 94» إلى الواجهة. ومن تلك القيادات، الرئيس السابق علي سالم البيض الذي عاد رئيساً للمجلس الأعلى للحراك الجنوبي السلمي، وإلى جانبه محافظ أبين السابق محمد علي أحمد. وبالتوازي مع تشكيل قيادات ميدانية في الداخل، برز «حراك الخارج» المكوَّن من قيادات جنوبية أسهمت في التعريف بالقضية الجنوبية في الخارج. وأعلن كلٌّ من الشيخ طارق الفضلي المقرّب من اللواء علي محسن الأحمر ومحافظ حضرموت السابق حسن باعوم الانضمام إلى الحراك الشعبي، وقاد الرجلان الاحتجاجات في عدن وأبين وحضرموت. إلا أن الفضلي ابن آخر سلاطين الجنوب، الذي قاد موجة احتجاجات نجمت عنها مصادمات عنيفة، تخلى مطلع 2011 عن الحراك وتوارى عن الأنظار بصورة مفاجئة، بعدما اتهمته السلطات بالانتماء إلى «القاعدة» مرات عدة.

انقسم «الحراك»
بين انفصال أو فيدرالية
من إقليمين

انضمام قيادات جنوبية بارزة إلى صفوف الحراك انعكس إيجاباً على مساره السلمي، إلا أنه لم يخلُ من السلبيات. فمع اتساع القاعدة الشعبية المؤيدة له، بدأ الصراع يتنامى بين قيادات الحراك في الداخل والخارج منذ مطلع عام 2010، ليسبب انقسام الشارع الجنوبي. هذا الانقسام أدى إلى انحسار فعاليات «الحراك» لأشهر، بعدما بلغت الذروة مع سقوط مئات القتلى والجرحى على أيدي قوات الأمن في عدد من المحافظات الجنوبية. وأدى الاختلاف في الرؤى بين مكونات «حراك الخارج» إلى انقسام حاد بين مؤيد لمطالب الانفصال ومناهض لها ومطالب بفيدرالية من إقليمين.
وفيما بدأت الاستعدادات أواخر عام 2010 لإعداد مشروع «فك الارتباط» ووضع دستور جديد للدولة الجديدة، تصاعدت الخلافات، وانقسمت القيادات في الداخل والخارج على خريطة الطريق للعودة إلى ما قبل الوحدة. وأدت التباينات في الرؤى حول شكل الدولة ونظام الحكم والسلطات وصلاحياتها إلى فشل تلك المحاولات.
كذلك، أدى الصراع المبكر على السلطة في أوساط «حراك الداخل» إلى بروز العشرات من التيارات والحراكات والمكونات التي تجاوز عددها الثلاثين؛ منها المجلس الأعلى للحراك الجنوبي السلمي ومؤتمر شعب الجنوب والمؤتمر الجنوبي الأول (مؤتمر القاهرة)، وغيرها. تلك التعددية أدت إلى استمرار الصراعات البينية، وهو ما سهّل اختراق الحراك الجنوبي من الداخل من قبل سلطة الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي الذي استخدم سياسة النفس الطويل في عملية استقطاب قيادات حراكية، معتمداً على أساليب الإغراء المالي ومنح المناصب من جهة وعصا المجتمع الدولي الراعي للحوار من جهة ثانية. ولا تزال حالة الانقسام مستمرة رغم محاولات عديدة لتوحيد القيادات الجنوبية. وعقد أكثر من لقاء في بيروت بين الرئيسين الجنوبيين السابقين على ناصر محمد وعلي سالم البيض. إلا أن المحاولات التي تكررت في القاهرة لم تنجح في توحيد رؤى القيادات الجنوبية ومواقفها في ظل تصاعد الاستقطاب وإعلان عدد من القيادات عدولهم عن مطلب فك الارتباط، ومنهم المهندس حيدر أبو بكر العطاس أول رئيس وزراء لدولة الوحدة، مقابل تنصيبه مستشاراً لهادي.
الانقسام على مستوى القيادات انعكس فراغاً في ساحات الجنوب، وأصاب القاعدة بـ"صدمة" دفعتها إلى البحث عن بديل، فأيّدت قطاعات واسعة من الجنوبيين قيادات ميدانية أدت دوراً أساسياً في حرب التحالف السعودي في الجنوب، مثل القياديين الموالين للإمارات شلال علي هادي شائع والقيادي عيدروس الزبيدي (مدير أمن عدن، ومحافظها)، وهما الأكثر قرباً من جماهيرالحراك.
ولم تكن الإمارات بعيدة عن هذا الواقع. فمطامع الدولة الخليجية في الجنوب دفعتها إلى لعب أكثر من دور خصوصاً بعد إلغاء اتفاقية تأجير ميناء عدن. وتمثل الدور الإماراتي في بذل محاولات لتوحيد الصف القيادي الجنوبي تحت عباءتها في منتصف آذار 2015، إلا أن اللقاء الذي احتضنته أبو ظبي بحضور كبير للقيادات الجنوبية، فشل في الخروج بقيادة موحدة ورؤية سياسية واحدة بشأن القضية الجنوبية. هذا الفشل دفع الإمارات إلى توظيف مشاركتها في «التحالف» في التهيئة للانفصال، من خلال استقطاب القيادات الميدانية الأكثر حضوراً وتأثيراً في الشارع،

فعملت على إبعاد القيادي في حزب «الإصلاح» نائف البكري من منصب محافظ عدن، لتُحلّ محله عيدروس الزبيدي، وكذلك بالنسبة إلى شلال شائع الذي دعمت تعيينه مديراً لأمن عدن. وفرضت أيضاً تعيين القيادي في الحراك ناصر النوبة محافظاً للحج وفضل الجعدي محافظاً للضالع. وعلى مدى الأشهر الماضية، بدأت الإمارات بالتهيئة للانفصال على الأرض، حيث تبنّت تدريب الآلاف من شباب الحراك الجنوبي في معسكرات داخلية وخارجية، فيما وقفت وراء تهجير الشماليين من عدن والجنوب.