دمشق | أربع سنوات من الحرب تركت آثارها السلبيّة في مختلف نواحي الحياة، ولم تستثن الطلّاب، إذ أمطرتهم بأزمة سلوكيّة وتعليميّة، لتعود ظاهرة التسرّب من المدارس إلى الواجهة، بعدما أوشكت على التلاشي، قبل السنوات الأربع الماضية. وبينما تبدو الظاهرة واقعاً ملموساً على الأرض، فإنّ إحصائيات وزارة التربية تقول عكس ذلك. كما أنّ أطفال سوريا، اليوم، غادرت البراءة ملامحهم، بعدما تسرّبت لغة الحرب إلى مدارسهم، لتطغى على أحاديثهم وتصبغ كلماتهم بصبغة عسكرية، وتلوّن تعابيرهم بألوان السياسة القاتمة.
المدرّسة سمحية عثمان التي أمضت 23 سنة في التدريس، توصّف حال طلّاب اليوم، في حديث إلى «الأخبار»: «يتحدثون عن أنواع الأسلحة وطرق القتل وحالات الموت. حتى ألعابهم وحركاتهم تحمل الكثير من العنف. لا يمكن القول إن هذه التصرفات مرتبطة بنشأتهم، أو طريقة تربيتهم، بل هي مجرّد ردود أفعال آنيّة للظروف التي يعيشونها، في هذا الوقت». وتوضح عثمان أن الحالة العامّة للطلاب، هي «عدم استقرار نفسي، انعكس على أغلب سلوكياتهم، سواء في المدرسة أو خارجها». أمّا إباء علي، المشرفة في مدرسة بنات الشهداء، في العاصمة دمشق، فتشير إلى حالات مختلفة: «ظهرت الانطوائية لدى بعض الطالبات، فتجدهن منعزلات عن باقي زميلاتهن، ويتجنبن الحديث مع المشرفات والمدرسات. بعضهن فقدن الأمل بالمستقبل، ووصلن إلى حالة نفسية سيئة، وأخريات استطعن التأقلم بعد فترة. ورغم ذلك، فأغلب الطالبات، وخاصة من هنّ في مرحلة المراهقة، أصبحن يحملن طباعاً قاسية جداً». وتؤكّد المدرّسة في كلية علم النفس، في جامعة دمشق، الدكتورة منال جنيد، وجود حالة مرضية نشأت بين الأطفال نتيجة تراكم العنف الذي يتعرضون له، وتشرح ذلك بالقول: «الظروف الصعبة التي خلّفتها الحرب لأسرهم من ضيق معيشة وعدم شعور بالأمان، شكّلت حالة تتصف بصعوبة المعافاة، وتسبّبت بخلل المنظومة الاجتماعية بشكل عام. ويتضح ذلك في سلوك الطلاب مع أقرانهم، وما يصدر عنهم من حالات عدوانية، والسعي إلى الرفض الدائم لكلّ ما هو إيجابي من حولهم. ويصل الأمر، أحياناً، إلى عدم الامتثال لأوامر المدرسين، وحتى الأهل، وغيرها من السلوكيات غير السويّة».

تأرجح المستوى الدراسي

ترافق التغير في سلوكيات الطلاب مع حالة انخفاض في مستوى التحصيل الدراسي، لم ينج منها إلا قلّة ممّن أصروا على الحفاظ على تفوقهم، رغم كلّ المحن. وبحسب المدرّسة سميحة عثمان، فإن النشاط الصفّي لأكثر من 70% من الطلاب (في المدارس التي تدرّس فيها) أصبح دون مستواهم المعروف سابقاً، وتقول: «لم يصل ذلك إلى حدّ ضعف المستوى الدراسي، إلا أن التفاعل والمبادرة خلال حصص الدراسة، انخفض بشكل ملحوظ عند الغالبية. ومن حافظ على مستواه هم المتفوقون فقط». وهو ما تؤكده، أيضاً، المدرّسة أوراس خليفة، مضيفة: «يعاني الكثير من الطلاب من الشرود أثناء إعطاء الدروس وفقدان الرغبة بالتعلم، وحتى بممارسة الهوايات. كما ابتعد أغلبهم عن المطالعة، وأصبحوا سلبيين إلى حدّ كبير». وتبرّر المرشدة النفسية، غالية سقباني، والتي تعمل في إحدى مدارس دمشق، وفي عدد من مراكز الإيواء، أسباب التأخّر الدراسي عند الطلاب الذين نزح ذووهم من أماكن سكنهم الأصلية، بالقول: «فترة النزوح، وترتيب الأوضاع في أماكن الإقامة الجديدة جعلا الطالب يتأخر دراسياً عن أقرانه، وخاصّة مع وضعه في صفّ أدنى من مستواه العمري، ما شكّل لديه ردّة فعل سلبية تجاه التعلم، ومظاهر عدوانية مع زملائه، تمثلت بتعطيل وقت الجماعة، ووصلت إلى حدّ الضرب، أو السرقة.

7 آلاف مدرسة خرجت عن الخدمة و230 مليار ليرة خسارة القطاع التربوي
أمّا الطلاب الذين لم يغيّر ذووهم مكان سكنهم، فلم يسلموا من الضغوط التي انعكست على الأهل، وتمثلت بعدم القدرة على تلبية كل متطلبات أبنائهم، المادية والمعنوية، ما أدّى أيضاً إلى التراجع في مستوى التحصيل الدراسي».
يعترف معاون وزير التربية، الدكتور فرح المطلق، بأن العملية التربوية «ليست في أفضل حالاتها، إلا أنها في حالة جيدة، وخاصة في ما يتعلق بمستوى التحصيل الدراسي»، والدليل على ذلك، حسب قوله، نتائج امتحانات شهادات التعليم الأساسي والثانوي التي لم تختلف عمّا كانت عليه قبل سنوات الأزمة، سواء بالكمّ أو النوع، عازياً الفضل في ذلك إلى «الجهود المبذولة في القطاع التربوي، على المستويات كافة، ورغبة ذوي الطلاب بمتابعة أبنائهم مسيرة العلم». ويضيف: «رغم خروج حوالى 7 آلاف مدرسة عن الخدمة في الرقة وحلب ودير الزور وإدلب وريف دمشق من أصل 22 ألف مدرسة في جميع أنحاء سوريا، وخسارة مادية تزيد على 230 مليار ليرة، في القطاع التربوي، وفقدان 403 شهداء من كوادر وزارة التربية، و524 طالباً وطالبة، لا تزال العلمية التربوية والتعليمية مستمرة، ومضبوطة».

أرقام التسرب سياسية!

قد يتمثل السلوك غير السوي للطالب الذي لا يتمكن من مواكبة أقرانه في المدرسة، دراسياً واجتماعياً، بالتسرّب، وفقاً لرأي المرشدة النفسية غالية سقباني، التي تقول: «يلجأ بعض الطلاب إلى ترك المدرسة، للتعبير عن الغضب، أو التمرّد نتيجة الظروف التي يعيشونها. أو قد يكون التسرّب قراراً شخصياً للطالب، أو ذويه، سعياً للبحث عن عمل يساعد من خلاله الأسرة، المتضرّرة جرّاء الحرب». وهو ما تؤكّده، أيضاً، المدرّسة إباء علي: «هذه الظاهرة لا تخفى على أحد. أصبحنا نجد عدداً لا بأس به من الأطفال خارج المدارس، أثناء فترة الدوام، سواء من يعملون في مهن مختلفة، أو للأسف يتسولون في الشوارع»، لكن الدكتور فرح المطلق يرفض هذا الكلام، ويؤكد أن نسبة التسرّب، في المناطق الآمنة، قليلة جداً، والأرقام والإحصائيات المتداولة، حول نسب التسرب في سوريا، «هي مجرّد أرقام إعلامية سياسية، وليست تربوية إحصائية». ويضيف شارحاً: «عدد الطلاب، ممّن هم خارج المدارس في سوريا يقارب المليون طالب، من أصل 5 ملايين طالب. جزء ضئيل جداً منهم لا يزالون في المناطق الساخنة، وجزء قليل أيضاً هم ممّن نزحوا إلى المناطق الآمنة، لكنهم لم يلتحقوا بالمدارس، والقسم الأكبر هم الطلاب الموجودون حالياً في الدول المجاورة (مصر، الأردن، لبنان والعراق)».
وحسب الإحصائيات، التي زودتنا بها وزارة التربية، فإنّ نسبة التسرّب لطلاب التعليم الأساسي (من الصف الأول الابتدائي حتى التاسع الإعدادي) خلال عام 2010 هي 3.4%، وفي عام 2011 هي 3%، وعام 2012 هي 3.19%، وعام 2013 هي 4.12%، وعام 2014 هي 3.23%، ويعود التذبذب بالنسب إلى اختلاف العدد الكلّي للطلاب بين عام وآخر.