القدس المحتلة | قيل الكثير عن النكبة، وعن المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية لتهجير الفلسطينيين من أرضهم. نجحت هذه الخطة، لكن هناك جزءاً من الرواية لم يقل، وهي عن الفلسطينيين الذين لم يتركوا قراهم وقاوم أهلها المحتل، ولا تزال صامدة حتى يومنا هذا.في عام 1947، بدأت العصابات الصهيونية التوغل في المدن الفلسطينية الكبيرة لإخلائها من سكانها وتوطين اليهود مكانهم. إحدى تلك القرى المستهدفة كان قرية «بيت صفافا»، التي تقع جنوب القدس المحتلة، فقد صمدت ولم تسقط كما سقطت جاراتها، كقرية المالحة والقطمون، وبقيت البلدة عصيّة على الاحتلال بفضل مقاومة شبانها والجيشين السوداني والمصري.
عندما سقطت المالحة والقطمون، شمال بيت صفافا، في أيدي العصابات الصهيونية، تساقطت القذائف المدفعية ورصاص الرشاشات كالمطر على بيوت القرية. فنزح النساء والأطفال والمسنون إلى مناطق أكثر أمناً، كمدينة بيت لحم، وبيت جالا جنوب القرية، فيما بقي 20 شاباً مع ما يقارب ٣٠ عسكرياً سودانياً ومصرياً في القرية لمنع المد الصهيوني من الوصول إليها، خاصة من مستوطنتي «مكور حاييم» و«رمات رحيل»، الواقعتين شرقها.
في تلك المعركة، استبسل عناصر من الجيش السوداني في الدفاع عن البلدة. «كانوا مندفعين إلى الشهادة بطريقة غريبة، وكانوا يؤمنون بأن الشهيد الحق، هو من يتلقى رصاصة في صدره لا في ظهره، فكان على المقاتل أن يواجه العدو ولا يهاب أي شيء». هذه التفاصيل يذكرها ابن بيت صفافا إبراهيم عليان (٨٩ عاماً)، من القلة التي عايشت النكبة في ظل موت غالبية ذلك الجيل.
أكمل العجوز حديثه متذكراً ما حدث مع ابن عمه، الذي رفض أحد الجنود السودانيين التحدث معه، معتبراً أنه جبان وليس رجلاً، بعدما تردد في التوجه إلى إحدى «استحكامات الجيش»، التي بنيت حول القرية.
عموماً، صمد هؤلاء وعادت العائلات الصفافية إليها، لكنهم فقدوا نصف أراضيهم بعد توقيع اتفاقية الهدنة «رودوس»، التي أقرّت بين الدول العربية المشاركة في الحرب على العصابات الصهيونية (عدا العراق)، وبين قوات العصابات، وبناءً عليه سحبت الجيوش العربية جنودها من المناطق التي باتت تسمى «أراضي ١٩٤٨»، ثم سلمت المملكة الأردنية نصف أراضي بيت صفافا للعدو، رغم أنها صمدت بفضل مقاومة أهلها. وأعلن الاحتلال آنذاك أنه لا يمكنه التنازل عن سكة «قطار الحجاز» الذي يمر في القرية، كونها تشكل وسيلة نقل مهمة من القدس إلى مناطق الساحل الفلسطيني كيافا وحيفا.
بعد اتفاقية «رودوس»، قسمت القرية إلى جزءين: أردني وإسرائيلي، وضع بينهما الاحتلال شريطاً حدودياً، ما منع أهالي القرية من العبور إلى الطرف المقابل. وشكل هذا الشريط ملتقى لأهالي القرية المقسمة، ومع مرور الأيام صار ملتقى لجميع الفلسطينيين الذين يسكنون في الأراضي الخاضعة لسيطرة الأردن، وتلك الخاضعة للاحتلال.
يروي عليان قصة إحدى الفتيات التي عاشت في الجزء الإسرائيلي من القرية وكانت مخطوبة لشاب يعيش في الجزء الأردني. فبعد تعثر إجراءات انتقالها إلى الجزء الأردني، اتفق أهلها مع عائلة خطيبها على تهريبها عبر الشريط الحدودي. يضيف الرجل المسنّ أن أهل العريس قدموا رشوة للحرس الأردني، الذي سمح لهم بالتقاطها بعدما رمت بنفسها من على الشريط.
ولم يكن الحرس الأردني أو الإسرائيلي يسمح للفلسطينيين بالاقتراب من السلك الشائك الحدودي، فكان الوافدون يكتفون بالوقوف بعضهم قبالة بعض، فيما يفصل السلك بينهم. كذلك كان يلتقي في هذه المنطقة فلسطينيون من حيفا ويافا وصفد وغيرها، لملاقاة ذويهم الذين نزحوا إلى المناطق التي ظنّوا أنها أكثر أماناً.
استمر وضع القرية على ما هو عليه حتى حرب ١٩٦٧. فبعدما احتل العدو كامل الأراضي الفلسطينية، فتحت الحدود بين القريتين وعادت الحياة إلى ما كانت عليه، رغم الفوارق بين الشقين، التي ظهرت بسبب الاختلاف الثقافي الذي نتج من اختلاف الجهة المسيطرة على مدار 19 عاماً. فقد بدا الشق الاسرائيلي أكثر انفتاحاً، فيما حافظ الشق الأردني على عاداته وتقاليده.
ويجد المطلع على تاريخ مدينة القدس تشابهاً كبيراً بين ما جرى في بيت صفافا وما جرى في المدينة المحتلة ككل. فقد سيطر العدو على الشق الغربي من المدينة خلال النكبة، واستكمل سيطرته عليها بعد خروج الأردن الذي كان يسيطر على الشق الشرقي. وبعد سقوط القدس، بدأ العدو بتنفيذ أجندته لتهويد القدس، فاحتل حارة المغاربة وهجر أهلها وشيّد على أنقاضها ساحة البراق وجعلها «مصلى» لمستوطنيه. كذلك أسكن اليهود في بيوت العرب في حارة الشرف (غربي القدس)، التي هرب أهلها منها إلى مخيم شعفاط على أمل الرجوع بعد انتصار العرب، لكنهم لم يعودوا حتى الآن.
أيضاً، حاول العدو بعد احتلاله القدس جعل سكانها يتقبّلونه كدولة هم جزء منها، وبقي يعمل على تلك الفكرة حتى جاءت الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، التي أخذت منحى شعبيا شارك المجتمع الفلسطيني فيها، فأوضحت للمقدسين صورة الاحتلال، وبدأت الفجوة بين الاثنين تتسع. وفي عام 1993، جاءت السلطة الفلسطينية وصارت ممثلاً عن الشعب الفلسطيني وفق اتفاقية أوسلو. ومع بدء عملية التفاوض مع الاحتلال، بدأت تظهر مطامع الأخير في المسجد الأقصى والبلدة القديمة والمدينة كلها. وكانت ذروة الأحداث، اقتحام رئيس حكومة العدو آنذاك، أرئيل شارون، الأقصى، لتندلع إثرها الانتفاضة الثانية عام 2000.
أوجه شبه كبيرة بين ما حدث في القرية وبين المدينة المحتلة

الانتفاضة الثانية شكّلت بدورها نقطة تحول فلسطينية على صعيد المقاومة، فتحولت من انتفاضة حجارة إلى انتفاضة مسلحة شاركت فيها كل الفصائل، منفذة عمليات فدائية داخل المناطق الواقعة تحت سيطرة العدو. لكن في هذه الانتفاضة، استطاع الاحتلال إلى حدّ ما النأي بأهالي القدس عن المشاركة فيها، وذلك بدمجهم في الحياة الاقتصادية وتوفير فرص عمل لهم في شركات إسرائيلية.
يعقّب المقدسي أحمد الصفدي، الذي سجن في الانتفاضتين، بأن «الناس كانت تنظر إلى السجين في الانتفاضة الأولى على أنه بطل، لكن في الانتفاضة الثانية بدأ فكرهم ينحرف عن ذلك الاقتناع... قال بعضهم لي عندما تحررت بعد سجني في الانتفاضة الثانية: ماذا تريد من العمل النضالي، روح اشتغل أحسنلك!».
ومن أبرز ما نتج من الانتفاضة الثانية إقامة جدار الفصل العنصري، الذي بدأ العدو بناءه في عام ٢٠٠٢ ولم ينته من بنائه كاملاً حتى الآن. وتسبب ذلك الجدار في عزل القدس عن مدن الضفة المحتلة، فجفف اقتصاد المدينة وجعلها وحيدة في وجه ما تتعرض له من هجمات استيطانية وتهويدية. كذلك دفع سكان القدس إلى ترك بيوتهم الواقعة داخل الجدار للاستئجار داخل المدينة خوفاً من سحب هوياتهم.
هكذا، ورغم حالة الهدوء التي عاشها العدو في القدس بعد عام ٢٠٠٥، لا يزال النضال الفلسطيني عموماً، والمقدسيين خصوصاً، مستمراً رغم كل المعوقات، بل في كل مرة حاول العدو إثبات سيطرته الكاملة على المدينة كان الرد الفلسطيني يأتي بصورة غير متوقعة. فعندما أعلن رئيس بلدية الاحتلال في القدس، نير بركات، خلال أحد المحافل الدولية، أنه «يعيش في مدينة هادئة خالية من الارهاب، على عكس كثير من الدول العربية والأوروبية التي ضربتها التفجيرات»، ردّ الفلسطينيون ببدء سلسلة من عمليات الدهس والطعن، ما أجبر بركات على السير في شوارع القدس المحتلة حاملاً سلاحه وطالباً من المستوطنين حمل سلاحهم خوفاً من السكاكين.
ورغم سيطرة العدو الفعلية على المدينة وتغنّيه بأنها العاصمة الموحدة لدولته، فإن الهبة الشعبية الجارية، بغض النظر عن تأرجح وتيرتها بين تصعيد وهدوء، أظهرت أن هناك فئة لن تسمح بتهويد المدينة. ولا يكاد يوم يمر في القدس من دون أن يكون في إحدى قراها مواجهات مع الاحتلال، ارتقت من الحجارة والسكاكين والدهس إلى تنفيذ عملية استشهادية في المدينة المحتلة، مؤخراً.




الشجر يعادي البشر؟
استمرت إسرائيل منذ احتلالها مدينة القدس عام ١٩٦٧ في حربها الديموغرافية ضد المقدسيين. فمنعتهم من البناء وهدمت المئات من المنازل بذريعة أنه لا يوجد ترخيص، وصادرت غالبية أراضي المدينة المحتلة بذرائع وحجج واهية، كأنها مصنفة «خضراء» (حرجية)، لا يمكن البناء فيها، إضافة إلى وضعها اليد على عقارات عدة، تركها أهلها خلال الحرب، وجعلت إدارتها إلى ما يسمى «القيّم على أملاك الغائبين»، الذي بدوره بدأ بيع العقارات للمستوطنين والجمعيات الاستيطانية. كذلك سعت حكومة العدو إلى إغراء بعض المقدسيين بالمال لبيع بيوتهم، ما تسبب في وصول عدد البؤر الاستيطانية داخل البلدة القديمة وحدها إلى 71. وكان للمسجد الأقصى النصيب الأكبر من محاولات التهويد وبسط السيطرة عليه، وذلك منذ الاستيلاء على مفتاح باب المغاربة في حرب عام ١٩٦٧، بعدما تمكنت وحدة المظليين من احتلال الأقصى. ولا يمكننا أن ننسى الاقتحامات اليومية للمسجد ومنع الفلسطينيين من دخوله بذريعة أنهم يعرقلون سير المستوطنين.