في البداية، من غير المنطقي أن يفكر ــ فضلا عن أن يحاول ــ أحد إنكار دور الحركات الصهيونية في تهجير شعب فلسطين، والإيحاء كأن اللاجئين الفلسطينيين قد هاجروا طوعاً أو رغبة، وفضلوا السكن في المخيمات على قراهم ومدنهم، وأن يتخلوا بذلك عن ممتلكاتهم ومنازلهم... من دون أن يكون ذلك نتيجة مجريات الميدان آنذاك.وتكفي الإشارة إلى مجزرة دير ياسين، التي نفذتها المنظمات الصهيونية قبل نحو خمسة أسابيع (9 نيسان 1948) من إعلان «إقامة دولة إسرائيل» (14 أيار 1948)، فقد كان لها الدور الأساسي في تهجير سكان القرى والمدن الفلسطينية الأخرى... ثم التمهيد لإقامة «الدولة اليهودية».
ومن المفترض أن أي عاقل أو منصف لا يقبل هذه الرواية، التي جهدت إسرائيل، ولا تزال، في إقناع العالم بها. ونسج الإسرائيليون رواية حول تهجير الشعب الفلسطيني، وكيف حاولت منظمة «الهاغاناه» إقناعهم بالبقاء في قراهم! من الواضح أن الخلاصة التي تسعى إليها الرواية الإسرائيلية هي التأسيس لمقولة إن العدو لا يتحمل مسؤولية اللاجئين الفلسطينيين، تجنبا للإلتزام بما يترتب على ذلك من الإقرار بحقهم في العودة إلى قراهم ومدنهم، لذلك كان لا بد من الإيحاء، بل القول، إنهم هم الذين تبنوا خيار «الهجرة»، لذلك عليهم تحمل نتائجها.
الأهم من مضمون الرواية الصهيونية ما استند إليه صاحب براءة إختراع هذه القصة، أي ديفيد بن غوريون. الذي يبدو أنه أدرك أن مفاعيل أي واقع يمر حكماً بالصورة (المفهوم)، بعيداً عن مدى تطابقها أو تناقضها مع ما حدث، وهو ما نتلمسه في هذه المرحلة في الكثير من القضايا والتحديات. فقد ثبت مراراً أنه يمكن اختراع تصور وخلق روايات ونشرها ــ وهي بعيدة كل البعد عن حقيقة الواقع ــ ثم يُبلوَر رأي عام لشعب ولشعوب بأكملها، من أجل تبني تقديراتها ومواقفها بناء على هذه الصورة.
استُعين بخبراء أميركيين لإعادة تعريف معنى كلمة اللاجئ وحصرها

القصة لا تنتهي هنا، فثقة قادة الصهاينة بتأثير روايتهم، تستند أيضاً إلى إدراكهم المسبق لحقيقة أخرى، هي أن العالم الغربي ــ الذي يدرك الحقيقة ــ قرر الإصغاء للرواية الصهيونية، وتجاهل معاناة اللاجئين والمجازر التي ارتكبها الصهاينة بحقهم. هكذا باتت الطريق مفتوحة أمام إسرائيل للإيحاء بأننا أمام قضية تتعارض فيها شهادة الشهود، ونتيجة ذلك، يكون الفاعل فيها مجهولاً! بل لم تنته «المؤامرة» عند هذا الحد، بل تواصل إسرائيل حربها على اللاجئين بتواطؤ عربي ودولي.
ومن أحدث الأساليب في ذلك سعيها ــ بالاستعانة بخبراء أميركيين ـــ إلى إعادة تعريف معنى كلمة لاجئ. بمعنى أن تقتصر هذه الصفة على الذين هُجروا عام 1948، دون أبنائهم وأحفادهم. والواضح من هذه الخطة أنه يراد التمهيد للقول إنه لم يعد هناك لاجئون بعد موتهم، وخصوصاً أن جزءا كبيرا منهم توفوا، والباقون بلغوا من العمر عتيا. أما الحق الوطني والشخصي لكل هؤلاء، فلا ينسحب على الأبناء والأحفاد.
ما تقدم لا ينبغي أن يكون مفاجئاً، فقد شهد العالم قبل نحو سنتين مجازر موثقة بالصورة والصوت، ارتكبها سلاح طيران جيش العدو ومدفعيته. أي إن عناصر الجريمة مكتملة: الفاعل معلوم، والأداة موثقة، والضحايا بالآلاف. فماذا كانت النتيجة بعد ذلك؟ اعتلى رئيس حكومة العدو، بينيامين نتنياهيو، منصة الأمم المتحدة، محملاً «حركة المقاومة الإسلامية ـــ حماس» وفصائل المقاومة الفلسطينية مسؤولية هذه المجازر. والأهم أن الدول الكبرى والمؤسسات الدولية لم تحرك ساكناً، وإن حدث فبخجل ولا يتجاوز سقف لوم إسرائيل على استخدامها القوة المفرطة، أو ردت بطريقة غير تناسبية ليس إلا... مع عدم نسيانهم تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

تهجير مدروس.. وهادف

لا يخفى أن علاقة تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، بإعلان «الدولة العبرية» هو علاقة المقدمة الضرورية بنتيجتها. فلم يكن بإمكان نحو 650 ألف صهيوني (في 1948) إقامة دولتهم، في ظل وجود نحو 900 ألف فلسطيني (ضمن ما عُرف لاحقا باسم «دولة إسرائيل»). ونتيجة ذلك، كان على المنظمات الصهيونية تبني خيار إستراتيجي باتجاه تحقيق ما كان مرسوماً من أهداف. وعلى ذلك، فقد كان عليها أن تختار:
* العزوف عن إعلان قيام الدولة الإسرائيلية نتيجة التركيبة الديمغرافية لفلسطين آنذاك. لكن هذا الخيار كان مرفوضاً لكونه يتعارض مع الهدف الإستراتيجي للحركة الصهيونية، وقناعة قيادتها المتمثلة ببن غوريون بإمكانية تحقيق هدف إقامة الدولة.
* تأجيل إعلان قيام الدولة إلى مرحلة لاحقة. لكن ذلك كان يعني أنهم سيعودون إلى مواجهة المعضلة نفسها لاحقاً، لكون الأغلبية الفلسطينية ستبقى في وطنها، إضافة إلى أن الفرصة التي لاحت في تلك المرحلة لا يوجد ما يضمن بقاءها مفتوحة وفق حسابات تلك المرحلة.
* إقامة دولة ثنائية القومية، قائمة على توازن يهودي ــ فلسطيني، مع أرجحية للطرف الثاني. لكن هذا الخيار يتعارض أيضاً مع الهدف الصهيوني، كما ينطوي على مخاطر وجودية، لجهة أن إقامة دولة صهيونية في ظل الواقع الديمغرافي آنذاك، يشبه كمن شيَّد بناء على قنبلة موقوتة لا يعرف متى تنفجر وتهدم البناء كله.
* إبادة الشعب الفلسطيني أو تهجيره. ولما كانت الإبادة التامة غير ممكنة، صار لا بد من ارتكاب مجازر مدروسة واستغلالها لبث الرعب في صفوف سكان القرى والمدن ليشعروا أنهم اذا لم ينجوا بأنفسهم سيواجهون المصير نفسه.
على هذه الخلفية، ليس أمراً عابراً أن تنفذ مجزرة دير ياسين المؤسِّسة لما تلاها من مجازر وتهجير، قبل نحو خمسة أسابيع (9 نيسان) على إعلان «دولة إسرائيل» (14 أيار 1948). وهكذا هُجر بعد المجزرة مئات الآلاف من الفلسطينيين، ليبني مئات الآلاف من الصهاينة دولتهم بعدها. فصار التهجير الخيار الوحيد أمام الحركة الصهيونية لإقامة الدولة.