ينزلق القوس النحيل على أوتار الكمان، شاقاً طريقه إلى قلبي. يرتفع وينخفض، مثله أنا مصاب بحُمّى الحُب. ها هو ينحت عميقاً باحثاً في دمي عن المعنى. أرخي جمجمتي فوقة، فيما رقبتي ويدي يشكلان انحناءة رقيقة، كأن وباء عاطفة الأم تجاه الوليد انتقل إليّ. أمامي أكثر من مئة ألف إنسان، جاؤوا من كل أصقاع الأرض إلى «الهايد بارك» في العاصمة البريطانية، لندن. وهنا أيضاً نايجل كندي حاضراً في الكونشرتوهات التي كتبها للكمان أهم مؤلفي العصر الرومنطيقي، وبداية القرن العشرين كبيتهوفن وبرامز ومندلسون وتشايكوفسكي وسيبليوس وبروخ وإلغار. حماستي تأخذ شكل حركة يدي، ومع ذلك أنزوي قليلاً للغوص في أعماق صمغ الشجر، وشَعر الأحصنة التي صنع منها القوس. أفكر كيف يستطيع الصمغ مساعدة القوس على الاحتكاك أكثر بالأوتار؟ وحين ينطلق اللحن من إحدها يتناثر غبارها الأبيض على الخبشة، فيسرح عقلي في سهول القمح في الجليل، وجداتي اللواتي سحقنه في الرحى فغدا رقيقاً أبيض، هناك حيث ركضت الخيول تحت الشمس ولامس شعر ذيولها السنابل!يرمي مصطفى سعد عازف الكمان، كلمة «بلوك» كيفما اتفق مع جمله الطويلة، أمّا حديثنا فهو دائر على موقع «فايسبوك» من خلال نافذتين واحدة في بيروت، والآخرى في الجليل، وذلك بسبب تعذر اللقاء الشخصي مع «المجنون».
أقاطعه لأسأله عن فحوى «البلوك»، فيرسل مقطعاً صوتياً بلهجته ــ لهجتي ــ التي سلختها بفعل مخالطتي للبنانيين، وكما تصف صديقتي الحالة بـ: «لسانك بيلكلك دغري... مش أصليّة». يصل المقطع الذي يشرح فيه مصطفى الكلمة: «بلوك يعني حجر كبير واقف بوجهك لمن يصير عمرك 18 ومفروض عليكي تخدمي بالجيش اللي احتل بلدك... البقر الجحاش». أضحك طويلاً وأنا أعيد التسجيل لاستمتع باللهجة وبـ«مقاقاته» الدرزية.
يحكي مصطفى عن عُمَر، أخوه الأكبر الذي أتم الثامنة عشرة قبل عامين: «وصلته رسالة التجنيد من سلطات الجيش، قرر الرفض، مفضلاً الأسر في السجون الإسرائيلية على أن يقتل أبناء شعبنا، أو يذلّهم على الحواجز. خلال هذه الفترة تعرفنا إلى عائلتنا الحقيقية من الناس الذين وقفوا في صفنا، أمّا عائلتنا البيولوجية فلم تؤدِّ دورها بشكل كافٍ خوفاً من النقد». ويردف: «تخطينا المرحلة مع عمر بصلابة، لكن الأخير فاجأنا بمرض وتسمم ألمّاً به داخل الأسر. لم تقدم مصلحة السجون علاجاً فورياً له، ما هدده بخطر الموت. وبعد شهر ونصف من تقديم العلاج المتأخر خرج من سجنه، لينتزع اعفاءه من الخدمة بإصرار... وها أنا أكمل طريقه بشهادة... مجنون»!
رأى الاحتلال أن عمر «عمل ضجة كبيرة»، على إثرها استطاع شباب محليون تشكيل حركة «ارفض، شعبك بيحميك»، والتي تدعو أبناء الطائفة الدرزية إلى رفض التجنيد الإجباري. ولهذا السبب بالتحديد اختصر الاحتلال الطريق فسلم مصطفى شهادة «مجنون لا يصلح للخدمة». يقول ضاحكاً: «أنا حمار بالنسبة لإلهن بقدرش أطخ بالبارودة».
لم يكن مصطفى سعد ابن بلدة المغار في جليل فلسطين المحتل مدركاً لصورة المستقبل الذي ينتظره. الطفل الصغير الذي لم يعد كذلك، بعدما شق الثامنة عشرة هذا العام، نشأ في عائلة درزية ربها شيوعي، تخّرج من جامعة «الصداقة» في موسكو، ولقن أبناءه (عمر ومانديلا ومصطفى وطيبه) أبجديات مقاومة الاحتلال داخل بيئة مركبة ومعقدة، لطائفة فرض عليها التجنيد الإجباري للجيش الإسرائيلي.
عزف مصطفى عن كل شيء إلا حبه للكمان، بعدما التحق في عمر صغير بدورات التنس، والسباحة، والرسم، والكارتيه، ليختار مع أخوته انتماءين هما: الموسيقى وفلسطين، وليؤلفوا لاحقاً فرقتهم «رباعي الجليل».
لكن مصطفى وأخوته لم يستطيعوا الاستمرار في العيش داخل بيئتهم البيولوجية، خصوصاً أن تلك الطائفة لا تستطع بعد الخروج كلياً عن التزامها تجاه الاحتلال، والذي أبرمه ستة عشر شيخاً في بداية الخمسينيات «مكرهين لحماية الأقلية الباقية».
تجربة العيش في قرية مختلطة تغلب عليها روح الأغلبية الدرزية الساحقة، كانت «صعبة»، يقول مصطفى، فالشباب الذين في مثل عمره قد «غسل الاحتلال أدمغتهم»، إذ كان من المستحيل على هؤلاء أن يتقبلوا ثقافة مغايرة وخارجة عن سياق عاداتهم الاجتماعية، ومذهبهم السياسي الموالي لمن احتل أرضهم. ولهذا اضطر مصطفى وأخوته إلى ترك مسقط رأسهم والانتقال إلى الناصرة، بلد توفيق زياد. هناك التحقوا بمدرسة «راهبات مار يوسف»، فاستطاعوا تلقي الدروس «من دون عنصرية وتمييز، وفي أجواء عربية خالية من تشوهات الهوية التي لحقت ببعض سكان فلسطين الأصلانيين».
«ساعدتنا المدرسة في التعرف إلى أناس من كل الطوائف، على اختلاف فئاتهم وبلداتهم»، يتوقف مصطفى للحظة قبل أن يمضي في حديثة عن سِسْ مريم: «لا حد لمحبتها لأبناء العالم، رحلت فيما روحها ترفرف في السماء الآن، حارسةً الأطفال في كل زمان ومكان».
كوّن الرباعي حلقة اجتماعية واسعة، ساعدتهم في شهرتهم التي قطفوها بجدارة في مهرجانات كثيرة في فلسطين والوطن العربي والعالم. أمّا الهدف من كل ذلك فهو «إيصال رسالة شعب حضاري له ثقافة وتاريخ وهوية وفن إلى العالم... شعب تنقصه الفرص فقط».