كشفت الرسائل النارية المتبادلة بين إسرائيل وقطاع غزة، في اليومين الماضيين، عن مجموعة من الحقائق، أبرزها أن إسرائيل لا يمكنها الاعتماد على قوتها التدميرية والردعية لضمان أمن مستوطني غلاف غزة. ونتيجة ذلك، يمكن أي عملية موضعية أن تتطور نحو مواجهة بين العدو والمقاومة الفلسطينية، لا يريد أي منهما البدء فيها الآن.ورغم التركيز الإسرائيلي على الربط بين النيران التي تعرضت لها قوات العدو على مدى اليومين الماضيين، وبين اكتشافها نفقاً إضافياً بالقرب من موقع «صوفا» شرق رفح (جنوب)، فإن العامل الأساسي الأكثر حضوراً في خلفية كل التقديرات يعود إلى استمرار حصار سكان غزة. وبهذه الخلفية، مثَّلت النيران التي تعرض لها جيش العدو ارتقاءً في الرسائل التي وجهتها «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، التي سبق أن وجهت عدداً من الرسائل حول ضرورة رفع الحصار.
مع ذلك، حرصت المقاومة على عدم الدفع حتى الآن، نحو مواجهة واسعة مشابهة للمواجهة الأخيرة التي شهدها القطاع قبل نحو سنتين. وإن كان لهذه الرسائل النارية من بعد سياسي، فهي أكثر ما تؤشر، على انسداد الأفق أمام إمكانية التوصل إلى صيغة اتفاق لرفع الحصار ضمن سياق المفاوضات التركية ــ الإسرائيلية، مع ما يعنيه ذلك من تبدد رهانات قد تكون راودت بعضهم لحل أزمة القطاع الإنسانية.
استمرت المقاومة باستهداف آليات العدو وجنوده بقذائف هاون

من الجهة الأخرى، تكشف حالة التوتر السائدة، عن استمرار الخلاف بين النظام المصري و«حماس»، وهو اعتبار يحضر بقوة لدى صانع القرار في تل أبيب، الذي من المستبعد قبوله بأي صيغة تسوية ــ على افتراض إمكانية ذلك ــ تتعلق برفع الحصار بعيداً عن الموقف المصري.
في المقابل، لوحظ أن الجيش الإسرائيلي ذهب في اعتداءاته بما يتجاوز النيران غير القاتلة، فشنّ سلسلة من الغارات والضربات تحت سقف يجمع بين إظهار الجدية والاستعداد للذهاب بعيداً في العدوان في حال ارتقاء رسائل المقاومة للضغط من أجل رفع الحصار، وبين عدم حشر فصائل المقاومة ودفعها إلى تجاوز ما يراه خطوطاً حمراً في ردودهم المضادة. وقد أدى القصف المدفعي الإسرائيلي أمس إلى استشهاد زينة العمورة (٥٧ عاماً)، شرق رفح.
على خط موازٍ، يحضر في حسابات صانع القرار السياسي في تل أبيب مجموعة من الاعتبارات التي تضغط عليه وتُسهم في بلورة خياراته العملانية. ومن جهة أخرى، يُقدِّر العدو أن أي تهاون في الرد على النيران التي تعرضت لها قواته، سيشكل رسالة ضعف يُفهم منها أنه قلق من التدحرج نحو مواجهة واسعة، ما يمنح فصائل المقاومة هامشاً أوسع في المبادرة والرد. والحسابات نفسها، بالإجمال، تنسحب أيضاً على التقديرات التي يفترض أنها حاضرة لدى المقاومة في غزة.
في ضوء ذلك، رأى العدو أن هناك أهمية استثنائية لإظهار الحزم في قراراته العملانية، والشدة في التنفيذ، والاستعداد للذهاب نحو مواجهة، صحيح أنه لا يريدها ابتداءً، لكن ليس بأي ثمن. ومن أشد الكوابيس التي تحضر في وعي الثنائي: رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن موشيه يعلون، أن أي مبادرة من قبل فصائل المقاومة لتنفيذ عمليات قاسية ضد الجيش والمستوطنين، ستكون ضخمة في تداعياتها ونتائجها، لكونها تؤدي إلى خسائر بشرية ومادية، وكذلك ستقوِّض كل ما زُعم من إنجازات حققتها عملية «الجرف الصامد»، خاصة «تعزيز قدرة الردع». من هنا، إن القيادة الإسرائيلية تجد نفسها مدفوعة نحو ضربات تجمع بين الحزم والاستعراض، وفي الوقت نفسه، محاولة تجنب التفجير الواسع.
وما يميز هذه العمليات، أيضاً، أنها أتت بعد يومين على تباهي نتنياهو بأن الهدوء الذي تشهده مستوطنات غلاف غزة يعود إلى قوة الردع التي تعززت بعد عملية «الجرف الصامد»، وهو ما حاول أن يثبته مرة أخرى، مع منسوب من القلق من التدحرج، عبر ردوده النارية.
على هذه الخلفية، أكد يعلون، خلال زيارته لـ «فرقة غزة»، أن إسرائيل «لن ترتدع من تهديدات حماس. سنستمر في الأعمال، في ضوء خرق سيادتنا حتى نجد ونكشف آخر نفق، وبعدما أطلقت حماس النار رددنا وسنستمر بالرد بقوة على كل تحدٍّ كهذا من حماس حتى لا يحدث التصعيد، ولا تستمر حماس بإطلاق النار».
في كل الأحوال، حتى لو عاد الهدوء إلى القطاع، فإن ما جرى لم يكن مفاجئاً لأي من الطرفين، لذلك هما يواصلان الاستعداد للحظة يصبح فيها الانفجار خياراً لا مفر منه. وبهدف منع «حماس» من فرض قواعد جديدة على حدود القطاع، أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن «أي نشاط إرهابي فوق الأرض وتحتها يعتبر خرقاً للسيادة الإسرائيلية، ويحمل حماس المسؤولية الكاملة عن هذه النشاطات». وأضاف: «الجيش سيواصل العمل بحزم وللمدة الزمنية المطلوبة بغية تدمير الأنفاق الهجومية كافة»، مشيراً إلى أن «الهدوء والحفاظ على مجرى الحياة الطبيعية هما مصلحتان مشتركتان للجانبين»، وأن إسرائيل ستعمل على ضمانهما.
إلى ذلك، استمرت المقاومة أمس، باستهداف آليات وجنود العدو بعدد من قذائف الهاون، ما استدعى طلب رئيس حكومة العدو عقد اجتماع للمجلس الوزاري المصغر (كابينت) صباح اليوم. فيما أعلنت فصائل المقاومة الفلسطينية أنها على استعداد لمواجهة أي عدوان جديد.