لا تُخصتر فترة أربعين عاماً قضاها سعود الفيصل على رأس وزارة الخارجية بعرض المواقف الديبلوماسية حيال عدد من الأزمات التي شهدتها المنطقة العربية، بل الأدعى الوقوف على واقع المنطقة العربية في يوم تنحّي "أقدم وزير خارجية عربي".وتكمن أهمية الطرح لجهة وضوح الرابط بين السياسة الخارجية السعودية وسعود الفيصل (المولود عام 1940) الذي راكم نفوذه في بلاده وفي العالم العربي بشكل سمح له بالتأثير المباشر في الأحداث وفي تحديد السياسات. وفي تقرير نشرته وكالة "رويترز"، أمس، نقلت عن دبلوماسيين في الرياض قولهم إنّ "السياسة الخارجية السعودية مثل جهاز الضوء الكاشف، قادرة على التركيز الشديد على المجال الذي يهتم به الملك والأمير سعود أكثر من غيره".

قيادة "الانقلاب العربي"

الرجل الذي ظهر قبل أيام في مؤتمر صحافي إلى جانب وزير الخارجية الفرنسي وقد بدت عليه آثار المرض والعجز، والذي استقبل قبل أسابيع جون كيري مستعيناً بعكاز لبحث قضية اقتراب التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، شارك منذ عام 2011 في قلب موازين القوى ضمن العالم العربي، لمصلحة دول مجلس التعاون الخليجي.
وكنتيجة لذلك، تتشارك اليوم طائرات تابعة لدول مجلس التعاون والطائرات الأميركية في حروب مزعومة ضد الإرهاب في العراق وسوريا. وبالتوازي، تقود السعودية حرباً في اليمن، في قرار لم يسبق له مثيل على المستوى السعودي. وجاء قرار الحرب في اليمن، الذي بدا كأنّ الرياض اتخذته منفردة، في ظل احتجاج سعودي واضح على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في عهد الرئيس باراك أوباما. ومعروف أنّ وزير الخارجية السعودي كان صاحب الصوت الاحتجاجي الأقوى في هذا الصدد.
ولعقود مضت كان لا يمكن الحكم على السياسة الخارجية السعودية إلا من باب التبعية لواشنطن. وحتى في يومنا لا يمكن الحديث عن استقلالية سعودية في هذا المجال، لكن من المؤكد أنّ انقلابات جرت في المشهد العربي منذ عام 2011 ــ كان سعود الفيصل أحد أركانها ــ منحت الرياض هامش تحرك أوسع.
مستعيناً بالتغيرات التي أنتجتها أحداث ما سمّي "الربيع العربي" في دول عربية مهمة، قاد سعود الفيصل منذ عام 2011 سياسة أدت إلى إمساك السعودية بزمام القرارات العربية. وكان الوزير السعودي طليق اليدين بعد الحدّ من الوزن السياسي لدمشق، فيما كان من أبرز الداعمين لإخراج جماعة الإخوان المسلمين من دائرة القرار في القاهرة ووصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم (حليف السعودية حالياً). حتى في بغداد، قاد سعود الفيصل معركة واضحة بوجه حكومة نوري المالكي، في محاولة لاستعادة النفوذ السياسي السعودي على العراق.

بناء السياسة: إيران و"الإرث العربي"

المحدد الأول للسياسة الخارجية السعودية الذي كان سعود الفيصل يبرر من خلاله التدخل القوي لبلاده في شؤون المنطقة، هو "مواجهة النفوذ الإيراني". وحتى قبل عام 2011، تشير وثائق "ويكيليكس" إلى هذه المسألة، وتشير أيضاً إلى تبنّي سعود الفيصل لهذا الخطاب في سلسلة أحاديث جرت مع مسؤولين أميركيين. مثلاً، تقول وثيقة أميركية تعود إلى شهر آذار 2009، إنه "من وجهة نظر السعودية، فقد تجاهلنا، نحن الأميركيين، نصيحة الملك ووزير الخارجية سعود الفيصل بعدم غزو العراق، لأن التدخل العسكري (بحسب الفيصل) في أفغانستان والعراق قد قلب المعادلات الإقليمية لصالح إيران". ومعروف أنّه في عام 2003 كان موقف سعود الفيصل رافضاً لغزو العراق.
وعرف الوزير الحائز إجازة في الاقتصاد من جامعة برينستون الاميركية عام 1964، والذي قضى أعواماً في وزارة البترول تحت رعاية وزير البترول السعودي، أحمد زكي يماني، أهم أيامه في الخارجية في عهد الملك عبدالله. وفي إطار الأسرة الحاكمة الكبيرة العدد، ثبت أن سعود كان من أقرب حلفاء عبدالله. واستطراداً، عندما شرع الملك الراحل، وهو ولي للعهد، في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية عام 2000، كان سعود الفيصل، بما اكتسبه من خبرة إبان عمله في وزارة النفط، هو الذي عمل معه لفتح الطريق أمام شركات الطاقة الأجنبية للعمل في حقول الغاز السعودية.
وكان لمواقف سعود فيصل وزن في الساحة العربية، نظراً إلى الثقل السعودي بدرجة أولى، ونظراً إلى طول فترة توليه منصبه. وفي عام 1975، جاء تسلم الفيصل للخارجية في فترة كانت تشهد فيها دول الخليج طفرة اقتصادية، وهو عامل أدى إلى تنامي التأثير السعودي إقليمياً. وفي حينه، كان العالم العربي يعيش تداعيات حرب 1973، وكان "إرث عبد الناصر" لا يزال حاضراً، فيما كان أنور السادات يُعدّ لمشروع سلامه مع إسرائيل، وكان العالم العربي يعيش آخر مراحل الانقلابات في عدة دول، قبل أن يدخل في فترة استقرار نسبي. انتهت تلك الحقبة عام 1979: ثورة في إيران، بداية التدخل السوفياتي في أفغانستان وما قابله من بحث أميركي عن قواعد في الخليج تثبّت لأميركا نفوذها، وكذلك اتفاق كامب دايفيد.
يتحمّل سعود الفيصل، بصفته وزيراً للخارجية، مسؤولية عن كل تلك المرحلة وما أنتجته من تداعيات ظهرت في ما بعد حرب الخليج الثانية. لكن الأكيد أنّ ما سيسجّل للوزير السعودي هو مشاركته الفاعلة في تثبيت دور السعودية عربياً في عقد الستعينيات وما تلاه، من خلال وراثة القضايا العربية، وكذلك اتساع نفوذ الرياض في القضية الفلسطينية.

أدوات تدخل متباينة

عرفت السياسة الخارجية السعودية تدخلات عدة في تلك المرحلة، من دول شرق آسيا، أو حتى في يوغوسلافيا السابقة. وهي تتحمل في ذلك العهد مدّ الخطابات الإسلاموية بالحياة ونموّها في العالم العربي.
وليست الحالة اللبنانية عابرة ضمن كل هذا المشهد، نظراً إلى اتفاق الطائف الذي رعته السعودية وساهم فيه الأمير السعودي. وبفضل هذا الاتفاق وصيغة الحكم التي أنتجها، وضعت السعودية يدها على مفاصل الحكم في لبنان وعلى توجهاته السياسية.
وفي وقت لاحق، مثّل لبنان لسعود الفيصل ساحة أخرى للتجاذب مع إيران، على خلفية العلاقة مع حزب الله. وتكشف وثائق "ويكيليكس"، أيضاً، أنّ سعود الفيصل اقترح إبان أحداث أيار 2008 في بيروت تشكيل قوة عربية تدعمها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي للتدخل في لبنان والقضاء على حزب الله.
عموماً، المفارقة أنّ الأحداث الراهنة في العالم العربي قدّمت نموذجاً آخر لسياسات سعود الفيصل. فما عمل عليه وزير الخارجية السعودي المتنحّي في لبنان ومن ثم في العراق ما بعد الغزو، قدّم نموذجاً أكثر خطورة منه في سوريا بعد 2011، إذ قاد سياسة التسليح وساهم في شرعنة سياسات فصل المناطق عن السلطة السورية. وفي أوائل عام 2012 سئل عمّا إذا كان يعتقد أن "تسليح مقاتلي المعارضة السورية فكرة جيدة"، فجاء ردّه سريعاً "أعتقد أنها فكرة ممتازة"، لا بل طالب قبل أسابيع بـ"وجود قوات قتالية على الأرض" في سوريا تحت ذريعة "محاربة داعش".
(الأخبار)