اللاذقية | بعينين تلمعان حماسة يقف أحمد، ابن السنوات الثلاث، في أول طابور له. الطابور يضمّ عشرات الأطفال المنتظرين، دون تذمر، أن يصل دورهم للحصول على كرتونة وألوان، وأن ينضموا إلى الأطفال الذين افترشوا الشارع، وباشروا الرسم. إنه صباح يوم السبت الذي يحمل معه الكثير من المرح للأطفال المشاركين في «نادي الرسم المجاني للأطفال» في اللاذقية.
النادي هو الأول من نوعه في سوريا، ويتخذ من الشارع مقراً لنشاطاته. هو «حلم» تحقق للكاتب ورسام الكاريكاتير السوري عصام حسن، الذي أراد من خلاله توجيه دعوة إلى الحياة، وإلى التغيير من خلال الأطفال، وعلى نحو خاص أطفال الأحياء الفقيرة والشعبية المهمشة. بدأ الحلم عام 2005، في أحد شوارع ضاحية بسنادا، في مدينة اللاذقية، حين وقف عصام للمرة الأولى، مع زوجته وابنه وابنته، وشريكه في الحلم، ياسر غانم، وقلّة من الأصدقاء. فرشوا أدوات الرسم والتلوين على الرصيف، وإلى جوارهم مسجلة تصدح بصوت فيروز. وما لبث المشهد أن جذب أطفالاً كانوا يلعبون في الشارع. كانت دهشتهم كبيرة حين علموا أن المشاركة في هذا الكرنفال الملون مباحة دون مقابل. كل ما عليهم فعله اختيار مكان على الرصيف، وإطلاق العنان لمخيلتهم، ليرسموا ما يحلو لهم. سبتاً تلو آخر، وبات أطفال الحي، والأحياء المجاورة، يحضرون مع أهاليهم. لتجري لاحقاً دعوة جميع سكّان الحي، ومن يريد، لتقاسم الطعام في الشارع، في ما سميّ «كلّنا حول مائدة واحدة». ما ساهم في خلق جو من المودّة وكسر رهبة العمل علناً في الشارع، حيث تُحضر كل عائلة طبق طعام يتشاركونه مع غرباء التقوهم للتو، ليصير بينهم خبز وملح، والكثير من الضحك، والحكايات.

لا يمكن أن يصبح قاتلاً هذا الذي تمدد يوماً على الرصيف يستمع إلى فيروز، ويرسم شمساً وبيتاً وأطفالاً يلعبون

«ساعتان من الرسم والتلوين، والأنشطة الأخرى المرافقة، كالحكاية التي تأتي بعد نشاط الرسم، أو الرقصة أو الأغنية، كافيتان للفت انتباه الأطفال إلى حالة جديدة يعيشونها» تقول أم أحد الأطفال المشاركين في النادي. وتضيف: «لعل هذه الحالة تزرع في الأطفال بذرة الانتماء للشارع الذي يلعبون فيه، وبالتالي للوطن، انتماء سيفهمونه لاحقاً حين يكبرون».
خلال السنوات اللاحقة اتسع «نادي الرسم المجاني للأطفال» ليضم مكتبة للمطالعة وإعارة الكتب، وتجارب موسيقية وغنائية لمشرفي النادي والأطفال أنفسهم، تقام حفلاتها في الشارع أيضاً، كما وصلت الفكرة إلى طرطوس، بعدما تبنتها مجموعة من أصدقاء النادي هناك. «لا يمكن أن يصبح قاتلاً هذا الذي تمدد يوماً على الرصيف يستمع إلى فيروز، ويرسم شمساً وبيتاً وأطفالاً يلعبون. ويفترض ألا يصبح فاسداً من تعاون مع رفاق التقاهم للتو لينظف الشارع من بقايا الألوان والأوراق. لن يصبح سارقاً ذلك الذي مُنح ريشة وألوان وورقة ولم يطلب منه مقابل سوى الفرح» يقول عصام حسن، لـ«الأخبار» متسائلاً: «كيف لن يتعلم الطفل الحب والثقة والانتماء إلى الجماعة، وهو يرى لوحة رسمها منذ دقائق معلقة على أحد جدران حيّه، ضمن معرض جماعي؟ كيف لن يفهم أن الوطن هو شارع وجدار ورفاق عليه الحفاظ عليهم؟» هكذا يؤمن عصام، ويؤكد أن «الهدف ليس الرسم بحد ذاته، بل نثر بذور الأمل في أرض خصبة، ستزهر يوماً في دروب أطفال سيكبرون ليكونوا هم الوطن، والحلم المنتظر».
عصام حسن الذي فاز بالجائزة الثانية في «مهرجان الصحافة العالمي في كندا» في مجال الكاريكاتير، وجائزة شرف في مهرجان «ديجون» الدولي، في كوريا الجنوبية، وغيرها من الجوائز، والمشاركات الدولية الأخرى، يؤمن أن الفن والحب يصنعان بشراً أفضل، ثواراً على الجهل والنمطية والمحدودية. وكان حريصاً، ومن معه من المتطوعين، على نشر هذا الفكر من خلال أنشطة النادي التي جالت في كثير من الأحياء الشعبية في اللاذقية، بما فيها تلك التي خرجت منها التظاهرات بداية اشتعال الأحداث، رافضين التمييز بين أطفال الموالين والمعارضين. «جميع أطفال سوريا يستحقون أن يتشاركوا الحب والأمل والفرح. ومشروعنا هو فسحة من الحرية لكل الأطفال السوريين الذين نستطيع الوصول إليهم، وأرضية للانطلاق إلى فضاءات أوسع للهوية والانتماء والارتباط بالمكان»، يقول.
لم يكتف حسن بفكرة النادي بل تابع استقطاب الأطفال من خلال ورش عمل متنوعة جمعته بالكثيرين منهم، بهدف تدريبهم على اتخاذ موقف مما يحدث حولهم، ومنحهم آفاق متنوعة لتفريغ مشاعرهم، والتعبير عن أنفسهم بحرية، دون تلقين أو ضغوط. آخرها كان مع أطفال مدرسة «عكرمة المخزومي» و«عكرمة المخزومي المحدثة» في حمص، بعد التفجيرين الانتحاريين اللذين ذهب ضحيتهما عدد كبير من تلاميذ المدرستين. ومن المنتظر أن يخرج إلى النور قريباً كتاب يجمع كتابات بعض هؤلاء الأطفال الذين شاركوا في الورشة، بعنوان «شموس لا تغيب». على غرار ورش عمل سابقة نتج عنها كتابان، الأول بعنوان «أكره اللون الأحمر» تضمّن رسائل ورسوماً من أطفال اللاذقية إلى أطفال غزة، إبان الحرب الإسرائيلية عليها، والثاني بعنوان «غيمة الشعر الوردية».