اصطدم آل سعود بالجدار اليمني؛ فالحملة الجوية السعودية ستتحول إلى هزيمة قاسية إذا توقفت من دون إحراز نجاح سياسي، اتضح أنه غير ممكن. هكذا يتسع بنك الأهداف اليمني، يوماً بعد آخر، ليتركز على البنى التحتية والمنشآت الخدمية والمدنية والسكنية، وعلى محاولات بثّ الرعب من خلال تدبير مجازر ضد المدنيين، ليس بالقنابل فقط، بل بتدمير دورة الحياة، ما يجعل البلد، وفق تحذير المنظمات الدولية، في مواجهة كارثة إنسانية. ولعل مستوى الحقد السعودي الممارس على الشعب اليمني الطيب والمسالم يذكّرنا بالحقد الصهيوني أثناء العدوان على لبنان وغزة، ولكن مع فارق مؤسف، يتمثّل في التأييد العلني أو الضمني للعدوان السعودي على اليمن، لدى أوساط شعبية، بل ولدى ممثلي المظلومية الفلسطينية، بمن فيهم قيادات فتح وحماس، اللتان توحّدتا في مباركة المذبحة ضد اليمن.
بعد ثلاثة أسابيع من انطلاقها، لم تحرز «عاصفة الحزم» أي تغيير في ميزان القوى على الأرض؛ فقوات الجيش والحوثيين واصلت التقدم في الجنوب، وبسط سيطرتها الميدانية التي تضمن الوحدة الجغرافية ـ السياسية للبلاد، وتعزز دفاعاتها. كذلك، أدى العدوان السعودي الوحشي إلى رصّ صفوف القوى الوطنية اليمنية، بدلاً من انجرارها إلى حرب أهلية كما كان يتوقع المعتدون؛ لم ينشق اليمنيون على أنفسهم، طائفياً أو جهوياً، ولم يركعوا، بل ولم ترتفع أصواتهم بالشكوى أو الولولة، ولم يشتموا العروبة، كيف وهم أصل العرب؟
للروس مصلحة في وحدة اليمن واستقلالها وتطهيرها من الإرهابيين

الجهة الوحيدة التي استفادت من العدوان السعودي هي حليفها الداخلي، أي منظمة «القاعدة» الإرهابية التي تمكنت من توسيع نطاق سيطرتها في حضرموت. وإذا كان الجيش اليمني، وفق تصريح الناطق باسمه، يرى أن أولوية عملياته هي تطهير البلاد من الإرهابيين، فإن آل سعود الذين يتواصلون مع قوى الإرهاب ويدعمونها بالسلاح، يغامرون بأمن المملكة، فالإرهاب لا حليف له.
في أول اشتباك برّي واسع على هذه الحدود الطويلة ( 2000 كلم)، تمكنت ميليشيات قبلية يمنية من الاستيلاء على موقع المنارة العسكري داخل الأراضي السعودية. وسقط، في هذا الاشتباك جنود سعوديون، وفرّ آخرون، واستولت الميليشيات القبلية على أسلحة حديثة من الموقع المذكور، ما ينبئ بنوعية القتال الذي سينشب في حالة إقدام «عاصفة الحزم» على الاجتياح البري لليمن.
الدعم الاستخباري واللوجستي الأميركي لـ«عاصفة الحزم» يترافق مع الغموض على الصعيد السياسي؛ فالرئيس باراك أوباما لا يجد أن الخطر الفعلي على دول الخليج ناجم عن «التوسع الإيراني»، بل هو كامن داخل تلك الدول، ما يتطلب القيام بإصلاحات سوف تتم مناقشتها في قمة أميركية ـ خليجية، قريباً. وعلى الفور خضعت الرياض، فأعلن وزير خارجيتها سعود الفيصل: «لسنا في حالة حرب مع إيران، وإنما نقاتل بطلب من السلطة الشرعية في اليمن». وهو ما يعني الالتزام السعودي الكامل بالأهداف الأميركية في اليمن، وفي المنطقة: تبريد العداء لإيران، وإشعاله ضد حلفائها العرب.
تتطلع الاستراتيجية الأميركية إلى استغلال الحرب الأهلية العربية الناشبة، لتحقيق أربعة أهداف، هي: أولاً، الحيلولة دون التأثير الإيجابي الممكن لتسوية الملف النووي الإيراني على تزايد نفوذ الجمهورية الإسلامية وحلفائها العرب. ثانياً، ضمان أمن إسرائيل التي لا تهددها طهران مباشرة، بل عبر تنامي قوة خط المقاومة العربية. ثالثاً، فرض إصلاحات على أنظمة الخليج، تسمح بتسويغ دعمها أمام الرأي العام الغربي والعالمي، وضبط آليات صنع الإرهاب، وإخضاع السعودية كلياً أو تفكيكها. للرياض لوبي قوي داخل المؤسسة الأميركية، لكنّ لها أعداءً أيضاً، من الليبراليين والأكاديميين والمنظمات الحقوقية، إلى المؤيدين لعلاقات متوازنة مع إيران، إلى المستثمرين في قطاع الصخر الزيتي، ممن تعمل السعودية، منذ أشهر، على ضرب استثماراتهم من خلال تخفيض عميق لسعر النفط.
الردّ الروسي على تصريحات سعود الفيصل لم يتأخّر؛ سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف، أعلن أن الرئيس المستقيل عبد ربه هادي «تجاوزته الأحداث»، داعياً إلى وقف القتال، وإلى الشروع في حوار بين الأفرقاء اليمنيين، في موسكو. في الواقع، تورّطت الرياض في التطاول على روسيا إلى حدّ لم تدرك عواقبه، بل من الواضح أنها لم تدرك، بعد، حجم التبدل في موازين القوى الدولية. يبلور مجلس الأمن القومي الروسي، الآن، استراتيجية خاصة باليمن، تتعدى رفض تغطية العدوان بقرار أممي إلى إفشاله، أولاً بالسعي إلى وقفه، وثانياً بسحب ذريعته من خلال سحب الاعتراف بـ«شرعية» هادي وحكومته، وثالثاً من خلال الوجود العسكري البحري والمداخلات الإنسانية المثابرة، ورابعاً من خلال التنسيق الحثيث مع الإيرانيين بشأن اليمن، وخامساً من خلال الإعداد لمبادرة سياسية تستعد لملء الفراغ بعد الفشل السعودي.
للروس مصلحة استراتيجية في وحدة اليمن، واستقلالها، وتطهيرها من الإرهابيين. وهو وضع سوف يسمح لروسيا بالعودة إلى مركزها الذي فقدته في الجزيرة العربية، وإلى التموضع البحري في عدن، في مواجهة التموضع البحري الأميركي ـ الإسرائيلي في جيبوتي. الاستثمارات الروسية، وأيضاً الصينية، يلائمها وضع الاستقرار وسياسات الاستقلال في اليمن.
على المستوى الإقليمي، تمكنت إيران من اجتذاب تركيا وباكستان إلى الاصطفاف معها في المطالبة بحل سياسي في اليمن، فتخلتا عن مغامرة آل سعود. ومن بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي، نرى أن عُمان محايدة، والكويت متحفظة ضمناً، وقطر سعيدة بالتورط السعودي.
أكبر مشاركة في «عاصفة الحزم» هي، الآن، المشاركة المصرية، المحصورة حتى الآن بالمشاركة في القصف الجوي والبحري. والسؤال، الآن، هو حول المدى الذي ستسير إليه القاهرة وراء الرياض؛ فهل سترسل جنوداً وتتورط في حرب برية، مقابل 200 مليار دولار؟ وهل يسمح الوضع الداخلي المصري، المتفجر، بذلك؟ وهل يسمح الوضع السياسي والمالي الخليجي بتزويد الرئيس عبدالفتاح السيسي، بذلك المبلغ الضخم، والضروري في الوقت نفسه، لتسويغ التورّط البري؟
ورغم أن عمّان أعلنت، في اليوم التالي لـ«عاصفة الحزم»، تأييدها لها، ومشاركة سلاح الجو الأردني فيها، فمن الواضح أنها فقدت الحماسة أو أنها لم تحزها أصلاً للحملة السعودية. هناك، بالطبع، الشعور بالخذلان بسبب عدم الحصول على دعم مالي للحكومة الأردنية التي تعاني من متطلبات وضغوط هائلة، ولكن هناك أيضاً عدم الاستطاعة؛ فالقوات الأردنية تواجه مهمات حدودية واسعة جداً، وأبرزها حماية الحدود الأردنية ـ السعودية من التسلل الإرهابي والقبائلي. وتعتقد عمّان بأنها، بذلك، تقدم خدمة استراتيجية ثمينة لآل سعود، لا يدفع هؤلاء تكاليفها.
وحدة اليمنيين، وصمودهم الشجاع في خندق اليقظة الاستقلالية، وتطلعهم إلى الاستقرار والأمن والتنمية والعدالة الاجتماعية، تشكّل عناصر مشروع وطني أصيل، منسجم مع حركة التاريخ، ويتمتع بقيادة نضالية متماسكة وعقلانية، تفرض على الحلفاء المباشرين والمحتملين التساوق مع البرنامج اليمني، وتراكم الحضور الإقليمي لليمن الذي يتحوّل، بتضحيات أبنائه، من موضوع إلى ذات، ومن حديقة خلفية لآل سعود إلى وطن ينتظره مستقبل زاهر.