دمشق | يتجاوز الضرر الذي أصاب الحرف اليدوية في سوريا نسبة 80% جرّاء الحرب المتواصلة التي تسببت في هجرة شيوخ الكار، وأصابت الحرفيين المتبقين بالويلات، نتيجة خسارة ورشهم وغلاء مستلزمات الإنتاج، وعدم وجود أسواق لتصريف مشغولاتهم، ما جعل مهناً يدوية عديدة مهدّدة بالاندثار، وسط محاولات حكومية خجولة، يضعها الحرفيون في إطار الدعم «الكلامي» الذي لا يطعم خبزاً.
«حرفتنا تعتمد على السيّاح، واليوم حركة البيع معدومة بسبب الأزمة التي رفعت أسعار مستلزمات الإنتاج؛ فمتر خشب الجوز وصل سعره إلى 400 ألف ليرة، بعدما كان يتراوح بين 30 - 40 ألف ليرة، إضافة إلى إغراءات كبيرة تقدمها الدول الخليجية والأوروبية للحرفيين الذين لم يبق منهم سوى 10%، بينما يغيب الدعم الحكومي تماماً، «في حين يمكن شراء المنتجات الحرفية، وهذا أضعف الإيمان» بحسب حرفي الموزاييك جهاد الحلبي. أما السيدة السبعينية، رباح الحمدالله، حرفيّة الأزياء الشرقية، فتؤكد لـ«الأخبار» أنّ «الأزمة أثّرت سلباً في هذه الحرفة، بعد شلل السياحة، وغلاء المواد الأولية، كالقماش والخيوط التي كان يأتي أغلبها من حلب، لكن هذا لا يعني أنها ستندثر، في ظل إقبال أشخاص جدد على تعلّمها»، فيما يشير حرفي القيشاني، أحمد الرباط، إلى بقاء 20 حرفياً يزاولون مهنته، بعد تضرر الورش في الريف، وهجرة حرفييها إلى مصر وتركيا، وانقطاع التيار الكهربائي، وغير ذلك من الأسباب. لذا فإنّ إنعاش سوقها، الميت، لن يكون إلا بإعادة المناطق المحاصرة إلى الدولة، لضمان عودة الحرفيين إلى ورشاتهم. بينما يقول حرفي النول، وسيم شكاكي: «باتت حرفتنا مهدّدة بالاندثار فعلياً، فقد كان يشتغل فيها حوالى 150 حرفياً، واليوم تقلّص عددهم إلى 3 حرفيين فقط».

الحرفي مقصّر أيضاً

لا يتفق معظم الحرفيين على لوم الحكومة، بسبب تقصيرها في حماية المهن اليدوية، فالبعض يجزم بأنّها تقوم بواجبها، ضمن الإمكانيات المتاحة، ويذهب إلى تحميل الحرفيين مسؤولية اندثار الحرف. فالحرفي إبراهيم الأيوبي، أحد أشهر صناع البروكار الدمشقي، إذ يؤكد تضرّره بسبب الأزمة، عند خسارته 10 نولات يدوية، لكنّه يرى، في الوقت نفسه، أنّ سماح وزارة الثقافة بنقل النولين المتبقيين إلى خان أسعد باشا، خفّف من تداعيات الخسارة. وبالرغم من كونه الحرفي الوحيد المزاول لمهنته، غير أنّه يرفض فكرة اندثارها، بسبب تدريسها في مدارس الثانوية المهنية، بدليل عمل أحد المتخرّجين معه، مثنياً على مبادرة مجلس الشعب بوضع نولٍ في إحدى قاعاته، للترويج لهذه المهنة، دون أن ينسى دور «اتحاد المصدرين» في دعم حرفته، عبر المساهمة في إقامة دورات تدريبية للبروكار، والسعي لتأمين خيط الحرير، وتصدير فائض الإنتاج. أما حرفي الرسم النباتي على الخشب، عرفان أوطه باشي، فيقول: «إنّ المشكلة، الأساس، هي أنّ الحرفي لا يريد تقديم أي شي، بينما يطالب الحكومة بتقديم كلّ شيء. فالحرفي، قبل الأزمة، كان مقصّراً في دعم مهنته، ويفضّل البقاء متفرّجاً، بينما بمقدوره فعل الكثير، كتدريب حرفيين جدد»، ليؤكد بذل جهود كبيرة للحفاظ على التراث اللامادي السوري، عبر إقامة دورات تدريبية، بدعم من وزارة السياحة، التي وعدت بتقديم الدعم اللازم.

دعم الـ«سوف» مستمر

تحضر لغة الـ«سوف» بقوّة عند سؤال المعنيين، عن دعم الحرف اليدوية. فمدير الخدمات والجودة السياحية في وزارة السياحة، زهير أضروملي، يؤكد نية الوزارة إحداث مجلس أعلى للحرف التقليدية، لحلّ مشاكل الحرفيين، والدعم بالمواد الأولية، ومنحهم المحال لممارسة حرفتهم، وإقامة أسواق جديدة، في دمشق واللاذقية وطرطوس، وتأسيس قاعدة بيانات للصناعات الحرفية، وتوثيقها. وقد بدأ بتوثيق المنتج اليدوي، خارجياً، بالتنسيق مع الجاليات السورية.

الضرر الذي أصاب المهن اليدوية يهدّد العديد من الحرف التراثية بالاندثار

وفي نبرة الـ«سوف» ذاتها يمضي ياسين السيد حسن، رئيس اتحاد الحرفيين، فيقول: «ندرس حزمة إجراءات لإحياء المهن التراثية، الآيلة إلى الاندثار، كإنشاء مكتب للاستثمار الحرفي، وحضانات، وقرية، وأسواق حرفية، في كل محافظة، إذ بدأنا بها في دمشق، ولاحقاً في المحافظات الأخرى، كما وعدنا بمعالجة القروض المتعثرة، ومنح قروض تشغيلية، للنهوض بالحرف المشهورة كالنحاسيات، والصدف، والبروكار، وغيرها».
رئيس اتحاد حرفيي دمشق، مروان دباس، أبدى رأياً مختلفاً بتأكيده أنّ الحرب الراهنة «زادت الطين بلة على الحرفيين، لكن الضرر طالهم قبلها، عند هدم الحكومة محالهم في باب شرقي، دون تقديم البديل، ما هجّر قسماً كبيراً منهم، بحيث لم يعد يتجاوز عددهم، حالياً، 50 حرفياً فقط». وأضاف أنّ المشكلة الفعلية «تكمن في عدم وجود مكان لاستيعاب الحرفيين، فقد أمنت أرض في المنطقة نفسها، أطلق عليها مدينة الياسمين، لكنها لم تسلّم حتى الآن»، كما أنه يعمل على إحداث معهد تدريب مهني، لمن يرغب من أبناء البلد فقط. ويشير دباس إلى ضرورة تكفل جهة حكومية، كوزارة السياحة أو الثقافة، بشراء إنتاج الحرفيين وتوثيقه ومنحه هوية تراثية، بشكل يحقق عائداً للدولة والحرفي معاً. وتستطيع المؤسسات العامة شراء التحف الشرقية، وعرضها في دوائرها، للتعريف بالتراث السوري الذي ينبغي استحداث قاعات له في السفارات السورية المنتشرة في العالم، مع إنشاء أسواق في الدول الصديقة تعوّض عن خسارة روادها في الداخل، مؤكداً مطالبة الاتحاد المستمرة بحماية الحرفيين، «لكن لا أحد يستجيب لمطالبتنا، لعدم وجود جهة صاحبة قرار تدعم فعلياً وليس بالكلام، ما يفترض تحديد هذه الجهة، ويستحسن أن تكون رئاسة مجلس الوزراء».

ضغوط إضافية

حرفيّو سوق المهن اليدوية اشتكوا لـ«الأخبار» من إنهاء وزارة السياحة عقود استثمار بعض محاله، وفرضها الانتساب إلى غرفة السياحة، وهو ما رفضه رئيس اتحاد الحرفيين الذي لم يكن يعلم بالأمر، كونه لم يصل إليه رسمياً، منتظراً تقدّم الحرفيين بالشكوى، حتى يبادر إلى حلها، ليؤكد بعد ذلك عدم جواز الانتساب إلى غرفة السياحة، أو أي اتحاد آخر، كون الاتحاد سيعطي الحرفي هويّة حرفية، بعد تأسيس مكتب الاستثمار الحرفي. وبينما يرى الحرفيون أنّ الاتحاد غير قادر على دعم نفسه ليدعمهم، يقول حسن: «هذا الوضع تغيّر كلياً، عبر سعيه لحل مشاكل الحرفيين مع الجهات المعنية، لكن الاتحاد لا يملك موارد ذاتية، خاصّة بعد امتناعهم عن تسديد اشتراكاتهم، بسبب تضرر النسبة العظمى من منشآتهم». ويشير إلى وجود نية بتغيير المرسوم 250 ليكون الانتساب إجبارياً، ويصبح الاتحاد هو المسؤول عن الحرفيين، ويكون دور الوزارات الأخرى مساعداً، ومشجعاً. أما الدباس فاكتفى بالقول: «سوق المهن اليدوية لا يمثل الحرفيين، لوجود عدد كبير فيه هم من الباعة والتجار، وفي النهاية، وزارة السياحة تسيطر وتتحكم في السوق حسب مزاجها».
مدير الخدمات والجودة السياحية يردّ على هذه الانتقادات بالقول: «هدف الانتساب إلى غرفة السياحة: منح الحرفي الهوية السياحية والتواصل معه لحل مشاكله، وليست الغاية مادية أبداً»، رافضاً فكرة وجود «خيار وفقوس» في استثمار المحال، بتأكيده أنّ المطلوب هو دعم المنتج الحرفي، وليس مصلحة الأشخاص. والوزارة لا تأخذ المحل، من الحرفي، إلا عند مخالفته التعليمات، وتالياً، فنظام التوريث، الذي يطالب به الحرفيون مخالف للقانون القاضي بمنح المحال لصغار الكسبة، كما يحرم حرفيين كثر من الاستفادة من الوجود في السوق. لذا عند طرح أيّ محل للاستثمار، سيمنح للحرفي صاحب الطلب الأقدم، والأكثر كفاءة.

... وللمبادرات الأهلية بصمة

لا يلغي غياب الدعم الحكومي، للحرفيين، وجود بعض المبادرات الأهلية، كمشروع السوريّة للحرف «أبهة»، أحد برامج الأمانة السورية للتنمية، الهادفة إلى دعم الحرف التقليدية، ومنعها من الاندثار، كما تقول المنسقة الإعلامية عفاف شيخ البساتنة لـ«الأخبار»، والتي أضافت: «نسعى لإيجاد الحرفيين والحرف المهددة بالاندثار، ليكون الدعم بالتدريب أو الاحتضان الكامل، عبر تقديم كل شيء للحرفي الذي يقتصر دوره على العمل وتدريب الراغبين في تعلم مهنته». وترى البساتنة أن عدد المستفيدين بلغ 350 حرفياً و45 متدرباً، مع احتضان 85 حرفياً احتضاناً كاملاً، كما نظمت دورات تدريبية، لحوالى 50 سيدة. تعمل 11 سيدة حالياً ضمن المشروع، الذي أمّن فرص عمل لعدد من الأسر المتضررة، عبر تدريبها وتطوير مهاراتها. فالمساعدة لا تكون بإعطاء النقود، أو الطعام، بل بتعليم حرفة توفّر مصدر دخل دائم»، وتشير البساتنة إلى أن «أبهة» لا تقتصر على دمشق، فالهدف هو جمع التراث اللامادي السوري بطريقة تراثية عصرية، ونشر ثقافته داخلياً وخارجياً، وهذا لا يتحقق من دون الحرفيّ.