جرمانا | في جوار ملعب جرمانا (ريف دمشق) مركز الايواء في المدينة الرياضية، وفي قبو أحد الأبنية المتاخمة له، تسكن عائلة مؤلفة من الأم وبناتها السبع. تخشى الأم الانضمام إلى النازحين أو الذهاب إلى أي مكان يتطلب إبراز هويتها. أميرة خرجت من الغوطة هرباً من زوجها ومن الحصار الذي كان مفروضاً عليهم. زوجها يقاتل مع «جيش الإسلام» التابع لزهران علوش، وابنها الوحيد خرج من هناك وانضم إلى وحدات «الدفاع الوطني» في جرمانا واستشهد. الزوجة واقعة اليوم تحت تهديد الزوج إذا ما وجدها، وتحت تهديد الخوف من الأمن إذا ما حمّلها وزر زوجها.
لدى زيارتها، تبدو المرأة كجبل سُلِخَ عنه كل شيء. لم يبقَ منه إلا بريق العينين، والكثير من الجراح التي لا يمكن أن تداريها أو تخفيها. ستؤكد عليك أن تدخل منزلها الخاوي إلا من بعض الفرش. وستصرّ على أن تجلس لتشرب الشاي إتماماً لواجبات الضيافة. لكنك ستنتظر طويلاً، والشاي لن يأتي، والماء سيستمر في الغليان. وبعد طول انتظار، ستهمس لإحدى بناتها بأن تذهب لبائع الخضر، وتطلب منه أن يرسل لها «ظرف شاي ليبتون» واحدا، وأن «يسجله على الحساب».

من الجبل إلى القاع

أمام شهامة أميرة تُحال جارتها في السكن أم عاصم إلى القاع. الأخيرة حوّلت منزلها في جزء منه إلى ما يشبه المخزن. يمكن أن تلاحظ في زاوية إحدى الغرف عدداً من «كراتين» المعونات المختومة من الهلال الأحمر والمخصصة للمهجّرين. وإذا ما تجرّأت وسألتها عن محتواها، فلن تتردد في أن تمنحك كمية من السكر أو علبة زيت، كرشوة صغيرة، وستزيد الكمية إذا ما دخلت فجأة ووجدتها تفرغ كيساً من البرغل في الحمام بعدما أصابه العفن. في السؤال عن مصدر هذه الكراتين أخبرنا جيرانها ممن يعرفونها أن زوجها يعمل في جهاز امني، ما يمكّنه من الحصول على معونات عبر أسماء لعائلات نازحة وهمية، وأن هذا لم يعد بالسرّ الذي يخفى على أحد في الحارة، ليوزعها لاحقاً على عائلته وأقربائه كل شهر.

تجلس على المدرج... لا تهز شباكه

تجلس أم وحيد وحيدة على درج الملعب، تستسلم لعينيها اللتين تقودانها، واللتين يبدو أن فيهما من الحياة ما يفوق جسدها وقد بدا مترهّلاً. تبدو شاردة وهي تنظر إلى الشبان والفتيات داخل السياج وهم يسددون الأهداف باتجاه شباك المرمى، دون أن تنجح هي في تسديد ولو هدفا واحدا في شباك الحياة، بعدما ضاقت عليها كثيرا كما قالت. عشرة أيام فقط على وصولها إلى الملعب المعروف بـ «المنشأ» في جرمانا، حيث يقطن نازحون ومهجرون من أرياف العاصمة. خرجت من القابون قبل أربع سنوات، وانتقلت إلى جرود القلمون، وبقيت هناك إلى أن هرب الأمان، تقول أم وحيد: «لم يعد هناك أمان. تنعدم الحياة بعد أذان العصر. لا يمكنك أن تخرج حتى لو كنت تموت. جئنا إلى ملعب النازحين، لأنه ليس لدينا قدرة على الاستئجار، أولادي شباب وصبايا وكلهم يدرسون».
أن تكون نازحاً لا يعني أنك محروم الاستثناءات. فأم وحيد لا تسكن وعائلتها في قبو الملعب، حيث ضيق المكان وحيث الغرفة الواحدة تضم تسعة أشخاص. هي تسكن إحدى الغرف في الطابق الثاني القريب من السطح مع ثلاث عوائل أخرى. والسبب في هذا الامتياز كما أخبرتنا هو أن «زوجها جلب استثناءً من الوزير».

خلافات عصيّة على الحل: شطف الدرج وشرب المتة

منذ انتصبت الأبنية على قدميها حاملة طوابقها الاسمنتية، والجميع يسمع بخلافات النساء على «شطف الدرج». يبدو أن الدرج قد نزح مع الآتين بعدما وضعته النساء في حقيبة اليد، كهوية أو كجزء من «المايك آب»، الذي لا يمكن الاستغناء عنه. فأول شرط لانضمام عائلة جديدة إلى قبو الملعب، هو الحديث الأوّلي عن الشطف والالتزام بالدور في التنظيف مرة في الأسبوع.
أم محمد وهي نازحة من كفر بطنا ترى أن لا وقت للزعل أو اختلاق المشاكل، تضيف بحزن: «صدقيني اذا أردتم تصويرنا، يمكنك أن تحصلي على مادة للبكاء فقط». وعن الخلافات تقول: «لا تحاكي حدا ما حدا بيحاكيك، مضى عليّ هنا ثمانية أشهر، لم يشتكِ مني أحد، الناس هنا طيبون، والمدير المسؤول ابن حلال».
«هؤلاء أكثر الناس الذين يختلفون، حتى لو كانت تفاصيل سخيفة لا قيمة لها، اذا شربت إحدى النازحات متة، تحتج الثانية وتعترض: «ليش أنا ما بشرب متة كمان»، يقول أحد المسؤولين عن تقديم المعونات للنازحين، ويضيف: «لو أنهم لا يختلفون لما حدث معهم ما حدث».
ربما يتسبب هذا التعليق لو وصل مسامع النازحين إلى نزوح ما تبقى في نفوسهم من كلام طيب لم يبخلوا به على هذا المسؤول نفسه عندما وصفوه «بابن الحلال الذي يقدم كل ما باستطاعته من مساعدة». أم علاء لا تحتّج على المتة ولكنها تحتّج على وجبات البرغل والأرز التي جعلتها تبدو كحامل في شهورها الأولى، وكنا قد هممنا بأن نبارك لها لولا أن استبقتنا بالكلام، موضحةً أن بطنها المنتفخ هو مجرّد سمنة أصابتها بسبب النشويات.

نازحو الملعب بلا كهرباء

يعاني النازحون في الملعب انقطاع الكهرباء. فمنذ اجتاحت عاصفة الثلج سوريا قبل ثلاثة أشهر والنازحون من دون كهرباء. تطلب أم وحيد أن ننظر معها، وتشير بيدها إلى محوّل الكهرباء في نهاية الملعب قائلة: «تعطل المحول قبل ثلاثة أشهر. حاول المدير أن يجد حلاً، لكن بدون فائدة. يقولون إن سعر المحول مليون ليرة (4000 دولار). من سيدفع مليون ليرة في هذه الظروف؟». قبل أن تنقطع الكهرباء النازحات كنّ يستخدمن غسالة نصف ميكانيكية، تفرك أم وحيد يديها قائلة: «اليوم بدأت أشعر بألم في أصابع يديّ بسبب الغسيل»، لكنها تعود وتعلّق آمالها على الجو الذي بدأ يتحسن مع اقتراب فصل الصيف.

مقيمون وعابرون

يستمرّ النازحون الآتون من مناطق الغوطة باللجوء إلى الملعب، فيما يستعد آخرون للمغادرة. منهم من وجد منزلاً، أو شريكاً يسكن معه، وآخرون ينتظرون حصول المصالحات في مناطقهم.
ربى، النازحة من بلدة الحسينية، تنتظر أن يخرج المسلحون لتعود الى منزلها الذي أوشكت العائلة على إنهاء بنائه عندما استهدفته قذيفة هاون. خرجت بأزمة قلبية وزوجها بانهيار عصبي ومعها أولادهما وسيارتهما التي ساعدتهم على حمل أجسادهم المتعبة إلى ملعب النازحين. تحدثنا ربى والسيجارة في يدها، وما بين النَفَسْ والنَفَسْ «سحبة»، غير آبهة بمرض القلب الذي تعانيه، وكما تقول: «عمر الشقي بقي». من بقي في الداخل يعاني الحصار، ومن خرج لم يعد ، ما بينهما ناس ما زالوا يتذكرون... لقد بكينا بكاء مرّاً.