وأنت تتجوّل في مدينة مرسين التركية تخال أنك في مدينة سوريّة. أسماء المطاعم والمحال التجارية مكتوبة باللغة العربية، وبدلالات تحيلك إلى الوطن (مطعم الشام، مطعم البحر، مطعم الصليبة...).محال كثيرة أصحابها سوريون، وغالباً ما يكون زبائنهم من السوريين، إضافة إلى ذلك فإنّ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تعلن الحضور القوي للسوريين، عبر نشر إعلانات عن مكاتب لتسيير أمور السوريين في تركيا، (عقارات، مطاعم، مدارس، وسيارات أجرة مع مترجم).

ليس كل من نزح إلى تركيا معارضاً. أبو بكري، سبعيني فرّ من حلب بعدما اقتحم المسلحون قريته، فلجأ إلى أحد أقاربه في مرسين. يقول: «المسلحون خربوا بيوتنا. اللي ما عندهم رب يعبدوه، دبحونا وشردونا. الله ينصر الجيش عليهم لنرجع ع بلدنا، نحنا ما طالع بإيدنا شي، وما إلنا غير الله. بيوتنا راحت، وشفنا أهلنا عم يموتوا، نحن ما هربنا ع تركيا لأننا خونة، هربنا لنعيش». يبيع أبو بكري الخضروات على عربة، بينما يعمل أولاده في محل ميكانيك سيارات. يجر عربته كل صباح مردداً العبارة التي كان يرددها السوريون جميعاً، قبل أن تصبح من "ثيمات" التظاهرات المعارضة: «ياالله مالنا غيرك ياالله».
أما أيهم، "معلم الأراكيل" في مطعم بقرية حربيات في أنطاكيا، فهو آت من اللاذقية بعدما توقف، بسبب الحرب، عن متابعة دراسته في كلية الحقوق في جامعة تشرين، ويقيم في أنطاكيا بموجب إقامة سياحية، بانتظار فرصة للسفر إلى دبي. أيهم، 24 سنة، لا يخفي أن تأجيل الخدمة العسكرية كان الدافع لسفره، برغم قساوة الحكم على المتهربين من خدمة العلم. يقول لـ"الأخبار": "سافرت لأن عندي مستقبلا احلم به، وما رضيت اطلع بدون إذن سفر من شعبة التجنيد لأني ما برضى اتسمى هارب». يشير إلى لقب "مندس" الذي يطلقه الموالون على كل من يغادر سوريا، متابعاً: "في ناس قالت عني مندس لأني سافرت وتركت البلد، بس ما كل مين سافر بكون مندس. في ناس، ببساطة، ما بدها تموت». يروي أيهم حالة الامتعاض التي لمسها، خلال الأشهر الثلاثة من إقامته في أنطاكيا، من الأتراك تجاه السوريين، وهي، برأيه، ناجمة عمّا يراه الأتراك تعدياً على حقوقهم نتيجة التسهيلات التي تقدمها الحكومة التركية للسوريين، كبطاقة الاستشفاء المجانية، وإعفاء السوريين من الضرائب على المحالّ التجارية، ما تسبب بمنافستهم للأتراك في السوق.
في المقابل تبدو حكاية كرم مختلفة. فكرم الذي يعمل حالياً مدرباً في منظمات المجتمع المدني في عنتاب التركية، لدعم ومساعدة السوريين في الداخل السوري، وصل إلى تركيا من جسر الشغور بعد خروجه من المعتقل مباشرة. وحين تسأله عن عمره يجيب بجدية: "في 10 نيسان بكفي السنة"، ويضيف شارحاً: "في جواز السفر تاريخ ولادتي هو 1985 لكنني في الحقيقة ولدت لحظة خروجي من المعتقل". كرم الذي كان يعمل في أحد برامج الأمم المتحدة في سوريا، ويحضر لنيل شهادة الدكتوراه في التسويق، يقول إنه لم يرتكب خطيئة، "أنا معارض في العلن، ولا أسكت عن الظلم، شاركت في التظاهرات لكنني لم أحمل السلاح". يروي لـ"الأخبار": "كنت بحكم عملي في الأمم المتحدة مسؤولا عن المناطق الساخنة في حلب، كنت أدرس احتياجات الناس، من طرفي الصراع، والمشاريع الممكنة لمساعدتهم. وفي حدا ما حب القصة وكتب فيي تقرير، والتهمة إني بروح على مناطق المعارضة". بعد اعتقاله لمدّة شهرين، اتخذ كرم قراره بالسفر، وهو يؤكد اليوم أن رفاقه من المؤيدين لم يلصقوا به لقب الخائن، "إنهم يعلمون أني كنت أعمل لمصلحة البلد"، وكذلك لم يخوّنه رفاقه الداعمون للـ"الثورة"، ويضيف: "وقت بتشوف الموت بتفضل تعيش حتى تساعد بدل ما تموت وأنت عم تساعد. أنا ضليت فكر إبقى لساعد المظلوم لوقت اعتقلت، وقتها شفت شو ممكن ينتظرني إذا رجعت ع المعتقل. بس أنا رح ارجع ع بلدي بيوم من الأيام، ما بعرف ايمتا، بس أكيد راجع".
"لواء اسكندرون صورة مصغّرة عن اللاذقية" هذا ما تقوله سناء، المتزوجة بفاتح، التركي الجنسية، الذي تعرفت إليه حين وصل إلى اللاذقية سائحاً، قبل اندلاع الحرب. ومع اشتداد الأزمة اختارت مع زوجها الانتقال من قريتها القنجرة، في ريف اللاذقية، إلى قرية بقراص (الخاضعة للسيطرة التركية في لواء الاسكندرون)، لتشارك هناك في تظاهرات ضدّ التدخل التركي في الشؤون السورية. تشرح سناء علاقة أبناء لواء اسكندرون بباقي السوريين قائلة: "لقد تعاطف أبناء اللواء مع السوريين منذ بداية الحرب. جمعوا المساعدات للنازحين، وساعدوهم بالحصول على فرص عمل، غير أنّ شيئاً من التذمر يظهر اليوم، لأسباب كثيرة، منها إلقاؤهم اللوم على الرجال السوريين الفارين من بلادهم عوض الدفاع عنها". وتشير سناء إلى أنّ إغلاق "معبر كسب" الحدودي منذ 22 أيار 2014، حرم الكثير من السوريين زيارة أهلهم: "قدمنا طلبات كثيرة لدخول سوريا لكنها رفضت، ونحن يستحيل أن ندخل البلد إلا عبر معبر كسب، المعابر الأخرى مفتوحة لكنها تحت سيطرة المسلحين. المئات زاروا أهلهم في سوريا، في عيد الأضحى الماضي، ومروا من معبر باب الهوى، غير أننا نحن يصعب علينا المرور من معبر بأيدي إرهابيين».