دمشق | مع بداية الأزمة، تسبّبت المواجهات المسلحة في تنحية التدريس عن المناطق المشتعلة. لكن استمرار الحرب التي دخلت عامها الخامس، ترك آثاره السلبيّة على التعليم، حتى في المناطق التي تصنّف على أنها آمنة. ثمّ برزت في هذه المناطق مجموعة من المشكلات أبرزها الاكتظاظ في الصفوف التدريسية، حيث بات عدد طلاب الصفّ الواحد، بحسب حمزة عبد الكريم، المدرس في ثانوية خولة بنت الأزور في العاصمة دمشق، يصل إلى «60 طالباً في الصف المصمّم لاستقبال 30 طالباً، رغم تقسيم الدوام اليومي إلى فترتين، صباحية ومسائية»، ما يعني أن المدارس باتت تستوعب 4 أضعاف ما كانت تستوعبه سابقاً.
وتتفرّع عن ذلك مشكلات جديدة، يضيف الأستاذ حمزة: «لا تتوافر أعداد كافية من الكتب، ما يدفع الطلاب إلى مشاركة الكتب في ما بينهم داخل الصف، أو الاستعانة بطبعات قديمة طرأت عليها تعديلات جذرية». إضافة إلى ذلك، فقد تركت الحرب آثارها السلبية على الصحة النفسيّة للطلاب، ما يفسّر ازدياد حالات العنف المفرط والنشاط الزائد، والكثير من حالات الذهان والفصام. وتشرح المرشدة النفسية في مدرسة «عباس حامض» الأمر بالقول: «كلها أمراض ناجمة عمّا شاهده التلاميذ من أهوال، وخاصة القادمين من مناطق متوترة». غير أنّ التلاميذ لم يكونوا وحدهم ضحيّة آثار الحرب السلبية، فالمعلمون أيضاً لهم نصيبهم منها. ففي ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصادية، والانخفاض الكبير في سعر الليرة السورية، باتت أجور المعلمين لا تفي بحاجاتهم اليومية، إذ يبلغ أجر المعلم، اليوم، وسطياً، قرابة 20 ألف ليرة (ما يعادل 80 دولاراً تقريباً، وفق السعر الرسمي لصرف الدولار).
في خضم هذا الكم من المشكلات التي يواجهها القطاع التعليمي، وصلت «المنظمات غير الحكومية» (NGOs) إلى سوريا. وبحسب سمير حواصلي، الباحث في كلية التربية في دمشق، «دخلت الـNGOs إلى العملية التربوية، من خلال تفاهمات واتفاقات مع وزارة التربية، تقوم على أساس إنشاء مشاريع وبرامج لتأهيل الطلبة وتعليمهم، بنحوٍ موازٍ لعمل الوزارة». غير أنّ هذه المنظمات لم تقدّم جديداً يذكر للطلبة السوريين، ولم تسهم في تحسين أوضاع التربية والتعليم، بل راحت تنشغل بجوانب أخرى. ويشرح حواصلي ذلك بالقول: «تغلب عمليات السبر وجمع المعلومات على عمل هذه المنظمات، والتوثيق بالنسبة إليهم هو القضية الأساسية». فعلى سبيل المثال، وبعدما انتقت منظمة DRC الدنماركية منطقة التضامن، جنوبي دمشق، مسرحاً لنشاطها، كان لافتاً تركها المدرسة التي كانت تعمل فيها وانتقالها إلى وسط العاصمة، لتبدأ بتنظيم نشاطات فنية وثقافية لا علاقة لها بالتدريس، مستفيدة من طاقم يضمّ مدرسين ورسامين وموسيقيين، جمعتهم من منطقة التضامن. وقامت بفتح مكاتب ثقافية، بأسماء عربية، تعمل فيها الطواقم التي جمعتها من المدارس، بعدما حصلت على التراخيص والموافقات اللازمة، عبر السوريين الذين تعمل معهم. أمّا منظمة FIRST AID الفرنسية، فاختارت العمل وسط العاصمة، وبدأت بتنظيم دورات مجانية في المدارس، يجريها معلّمو المدارس ذاتها. وعلى هامش عملها، تنظّم معارض ونشاطات، يتقاضى بموجبها بعض المعلمين مرتبات «متواضعة قليلاً، ولكنها تفي بالغرض في هذا الظرف الصعب» حسب إحدى المعلمات، التي أضافت شارحةً: «أتقاضى من المنظمة ما يعادل مرتبي تقريباً، فيصبح مجموع ما أتقاضاه نحو 40 ألف ليرة (160 دولاراً تقريباً)، ما يخفف جزئياً من تكاليف المعيشة الباهظة التي تفوق راتب الدولة بأضعاف».

المدارس باتت تستوعب 4 أضعاف ما كانت تستوعبه سابقاً

الجدير ذكره هو أنّ هذه المنظمات تستفيد من صيغة العقود الموسمية التي تبرمها مع وزارة التربية، حيث يستغرق كل نشاط تقوم به ما بين 3 ـ 6 أشهر، وبعدها يكون للمنظمة حرية العمل في أنشطة أخرى، تكون قد كوّنتها خلال فترة العقود. ويرى الباحث الاقتصادي عبدالله شيخ الأرض في نشاط منظمات NGOs المالي أنه «اختراق لبنية المجتمع السوري، المعتاد، تاريخياً، على دور الدولة الاجتماعي، والاعتماد عليها». ويشرح، في حديث مع «الأخبار»: «المشكلة ليست في المعلمين الذين يتقاضون مبالغ متواضعة، أو كبيرة، من تلك المنظمات؛ هؤلاء مكرهون على بيع قوة عملهم، في ظل الانخفاض الحاد لمستوى المعيشة. المشكلة هي في أن الدولة تخلي دورها الاجتماعي لجهات قد تكون مشبوهة سياسياً، ويُرجّح أنها آتية لرصد الواقع السوري، استعداداً لإدخال استثماراتها في مرحلة إعادة الإعمار». وفي معرض الرد على الشبهات التي تحوم حول عمل NGOs، يقول مصدر من وزارة التربية، طلب عدم ذكر اسمه، لـ«الأخبار»: «لا يمكننا تجاهل حاجة البلاد الماسة إلى وقف نزيف العملية التربوية والتعليمية في البلاد. فمن المبالغة القول إن الأعداء يتسللون من خلال عقود تجريها وزارة التربية مع منظمات عالمية معروفة. أما أن ننظر إلى الدولة على أنها المخلص الوحيد، في هذه الظروف، فهذا أمر غير منطقي». وحول احتمالات ظهور اختراقات أمنية في عمل تلك المنظمات، يرى المصدر «أن لا شيء مستبعداً. وإذا حدث أمر كهذا، فالأجهزة المختصة ستتحمل عبء معالجته. أما من حيث المبدأ، فالوزارة والحكومة عموماً تعملان على التفاهم مع المنظمات الإغاثية والدولية ضمن حدود السيادة، وبما يساعد الشعب السوري على الخروج من محنته».
وإضافة إلى الـNGOs، برز مؤخراً دور لوكالة الغوث «الأونروا» في مجال التربية والتعليم. فقد أعلنت الوكالة، بالاتفاق مع وزارة التربية، نيتها توظيف معلمين سوريين لديها، حيث تبلغ الأجور، في الوكالة، نحو 500 دولار، أي ما يعادل 5 أضعاف متوسط أجور المعلمين. وبحسب مصدر مطّلع لـ«الأخبار»، «تقدَّم 10 آلاف معلم في العاصمة للعمل في الأونروا، لتعلن الأخيرة إثر ذلك أنها ستقبل 3 آلاف منهم، للتقدم لاختبار التوظيف، ليوظف قسم منهم في نهاية المطاف». ويضيف المصدر أنّ «هذا الأمر أظهر جلياً مقدار الضعف والترهل الذي أصاب دور الدولة، ومدى انعدام ثقة المعلمين بإمكانية تحسّن أجورهم، الأمر الذي يتطور، لاحقاً، إلى التفريط في استقلالية التعليم وفقدانه هويته».