لم يعرف أهالي محافظة الرقة السورية انقطاع الكهرباء قبل عام 2011. لم تكن الرقة تخضع لبرنامج التقنين الحكومي الذي تخضع له بقية المحافظات السورية، ليس لأنها مدعومة حكومياً، فهي كانت وما زالت من المدن المنسية، إلا أن كمية استهلاكها للكهرباء قليلة إذا ما قورنت بجاراتها في الجزيرة السورية شرقاً، وحلب غرباً، بسبب قلة عدد سكانها من جهة (أقل من مليون نسمة يقطنون في محافظة تماثل مساحتها مساحة لبنان)، ووجود محطات توليد الكهرباء على سدي الفرات والبعث فيها من جهة أخرى.
"يؤرّخ" المواطن خليل العلي، لحظة الانهيار الذي أصاب قطاع الكهرباء في المدينة: «بعد سقوط الرقة بيد كتائب الجيش الحر وجبهة النصرة قبل عامين، تعرّضت معظم محطات توليد الطاقة الكهربائية، ومراكز تحويلها للنهب والسرقة، وأظهرت كثير من مقاطع الفيديو والصور عمليات نقلها إلى تركيا عبر مركز تل أبيض الحدودي».
في عام 2010 كانت مدينة الرقة قد أنجزت تجربة هامة بالتعاون مع مدينة شانلي أورفة، التركية، بموجب الاتفاقيات المشتركة بين الحكومتين السورية والتركية. شملت تلك التجربة إنارة إحدى الساحات العامة بمصابيح تعمل على الطاقة الشمسية، إضافة إلى إيفاد مهندسين كهربائيين من شركة كهرباء محافظة الرقة إلى تركيا، للاطلاع على التجربة التركية في الاستفادة من الطاقة الشمسية لتوليد الطاقة الكهربائية، وبحث إمكانية إنشاء محطات توليد على امتداد البادية الواسعة في محافظة الرقة، إلا أن هذا المشروع لم يتحقق، بسبب بدء الأزمة السورية وما تلاها من تداعيات.
ويتحدث المواطن جاسم الحمود لـ«الأخبار» عن واقع الشبكة الكهربائية الحالي في محافظة الرقة: «أصيبت بعض محطات نقل الطاقة الكهربائية خلال الغارات الجوية بأضرار جسيمة لا يمكن إصلاحها في ظل غياب الأدوات اللازمة لذلك، إضافة إلى أنّ قلة الكابلات والروافع ومراكز التحويل، التي خرجت عن الخدمة وسُرق معظمها، أدّت إلى تدهور وضع الشبكة الكهربائية. تنقطع الكهرباء أحياناً عشرة أيام متواصلة، أو شهرين، وإن أتت فلا يتجاوز الأمر ساعتين في اليوم الواحد».
فرض سقوط الرقة واقعاً جديداً على المدنيين. ويمكن القول إن حياتهم تغيرت بشكل جذري. ولا أحد ينكر أن هذا الانتقال كان نحو الأسوأ، ليس على صعيد الكهرباء فحسب، إنما على مختلف الصعد. حين انتهت المعارك كان لا بد من الالتفات إلى الخدمات العامة الأساسية. وفي ظل عجز من توالوا على حكم المدينة، من كتائب وألوية وفصائل وصولاً إلى "دولة الخلافة" الداعشية، عن تسيير شؤون المدنيين، وتأمين الخدمات الأساسية لهم، أصبح حوالي 80 % من قطاع الكهرباء خارج الخدمة الفعلية.
لم يستطع المواطنون التأقلم مع واقعهم المزري، ولا الاستمرار في عملية «الجمع والالتقاط» البدائية لحطب القطن، وجذور الأشجار، لاستخدامها في الطبخ والتدفئة شتاءً». انتشرت في المدينة "لمبات الكاز" مع ازدهار تجارة الفيول، إلا انها لا تلبي سوى حاجة الإضاءة، كما أنها ذات رائحة كريهة، وأبخرة سامة، بسبب استخدام النفط المكرر يدوياً فيها. ومع استمرار انقطاع التيار الكهربائي، وفقدان الأمل بإصلاحه انتشرت مولدات البنزين المنزلية في الشوارع، وعلى سطوح البنايات. يقول الناشط ماهر العابد: «أدى فتح الحدود على تركيا إلى نموّ تجارات كثيرة، أبرزها تجارة أمبيرات الكهرباء».

تعرّضت معظم محطات التوليد للنهب بعد سقوط الرقة بيد "الحر" و"النصرة"

بدأ بعض ميسوري الحال باستيراد مولدات الطاقة الكهربائية، ونشأت تجارة «الأمبيرات» الكهربائية للمواطنين، حيث يكاد لا يخلو أي حي من أحياء الرقة من مولد ضخم يبدأ عمله الساعة الثانية عشرة ظهراً، ويستمر حتى منتصف الليل.
يوضع المولد في زاوية أحد الشوارع أو الساحات الخالية. ويزود كل بيت في الحي ثلاثة أمبيرات. يصل عدد المشتركين في كل حي إلى نحو 500 مشترك. يتقاضى صاحب المولد مبلغ 1000 ليرة سورية كرسم اشتراك أولي، لمرة واحدة، فضلا عن ثمن الأمبيرات البالغ 1000 ليرة سورية (ما يعادل 5 دولارات) أسبوعياً عن كل ثلاثة أمبيرات. ويقوم المشترك بتمديد كابل، على حسابه الشخصي، من المولد الى قاطع يوضع أمام منزله. وتعمل الشبكة الكهربائية الرسمية أحياناً بما لا يتجاوز ساعتين في اليوم بين الساعة السابعة والتاسعة مساء، تتوقف بعدها المولدات عن العمل، ما يزيد أرباح المستثمر.
يتحدث المواطن مصطفى عبد الواحد عن استفادته من مشروع الأمبيرات، حيث يزود منزله بخط كهربائي بقوة ثلاثة أمبيرات: «اشتركنا في الأمبيرات بعدما فقدنا الأمل بإصلاح أعطال الشبكة الحكومية. ندفع مبلغاً أسبوعياً لصاحب المولد مقابل ثلاثة أمبيرات كافية لتشغيل الإنارة والتلفزيون، وأضفنا إليها لاحقاً ثلاثة أخرى كي نستطيع تشغيل البراد». ويضيف عبد الواحد: «لاقت هذه التجارة رواجاً كبيراً، وحققت هذه المهنة دخلاً جيداً للقائمين عليها، وأصبح لها أصول وقوانين متعارف عليها ويجري التعامل بها». لم تقتصر هذه التجارة على أحياء مدينة الرقة، إنما امتدت إلى الريف البعيد، وأصبح وجود المولد ضرورة ملحة كأحد أسباب الحياة، وضمان التواصل مع العالم الآخر، ومعرفة ما يجري خارج حدود "الولاية" التي ضمتها "داعش" إلى "دولتها".
وتعاني تجارة الأمبيرات صعوبات عديدة أبرزها تحدث عنها لـ«الأخبار» المستثمر أبو عبد الله الرقاوي: «نحنا نعتمد على نحو أساسي على المازوت المكرر يدوياً في تشغيل المولدات، وهذا يعطل المولد، لكن لا بديل. اشتريت مولداً للبيت أول مرة، بعدها اعطيت جاري ولحظت وجود فائض يذهب هدراً، فبدأت أبيعه للجيران. بعدها كبر المشروع واشتريت مولداً أكبر لتغذية الحي بالكهرباء». وتخضع أسعار الأمبيرات لشرط العرض والطلب في السوق، مع وجود مضاربات أحياناً لكسب أكبر عدد من المشتركين. ووضع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) تسعيرة ثابتة لكل أمبير.
ليست الرقة استثناءً في سوريا اليوم. اقتصاد الحرب يفرض شروطه عليها كما على غيرها من المناطق. تحتاج تلك المحافظة المنكوبة إلى اكثر من "3 أمبيرات" لتعيد للناس بعض الضوء الذي خسروه.