كانت لجدتي "سودة" قلة قليلة من الأصدقاء. لم تكن محبوبة من قبل كثيرين، خصوصاً الأقرباء!ومع هذا، كانت لدى جدتي ثلاثُ صديقاتٍ "وفيات". لطالما رأيتها تجلس أمام الدار على كرسيها الخشبي تمد قدميها على طاولة منخفضة وبجانبها احدى رفيقاتها الثلاث: "بكيزة" التي ظلت مقربة منها حتى عمر متأخر، بالرغم من "تلاسنهما" كثيراً؛ "ثلجة" التي لم نعد نراها منذ زمن؛ و"رفيقة" التي كانت زياراتها نادرة جداً - من الربيع للربيع- ومثمرة للغاية في نظر "سودة". لم نكن نعلم حينها لماذا كانت رفيقة تحتل منزلة في قلب جدتي، فنحن الذين اعتقدنا أن ليس لجدتي "الجبارة" قلب يخفق لأي شيء/أحد. وكحال أي مخيم، يميز الجميع بعضهم البعض بشكلٍ شخصيٍ بحت، عارفين تاريخ العائلات الممتد من المرحلة السابقة للنكبة بعقود قليلة. وبحكم هذا الواقع كنا نعلم أن ما يربط "رفيقة" بجدتي ماضٍ تتشاركانه بتفاصيله المؤلمة، فكلاهما من قرية الـ"كويكات" التابعة لقضاء مدينة عكا الفلسطينية ومن الجيل نفسه الذي عاش النكبة والتهجير.
لكن هل هذا كل ما في الأمر؟ لم أعتقد ذلك! فـ"سودة" لم تكن لتحبب أحداً وتنتظر اللقاء به والحديث معه فقط لمشاركة الذكريات المتعلقة بمدرسة القرية والبيارات والتطريز وحمار جدي الذي كان يرافقه في بيع محاصيل الزيتون في المدينة الساحلية القريبة "حيفا".
كان هناك سر بالتأكيد. سرٌ من الأسرار التي تعشقها سودة وتتشوق لسماعها من فترة لأخرى. اعتقدنا اننا ملكنا سرها يوم علمنا ان لـ"رفيقة" قصة مشابهة لجدتي، تتعلق بمنعها من الزواج من الشخص الذي أحبته يوماً ما في الـ "كويكات". لم تخبرنا جدتي أن رفيقة هي "الجفرا"! نعم الجفرا هي ذاتها! "جفرا" الشخصية الأنثوية الخالدة في أغاني مارسيل خليفة وخالد الهبر وأشعار عزالدين المناصرة. ياه كم كانت "سودة" أنانية في حفظها هذا السر! يقال ان الأسرار تفقد حقيقة كونها أسراراً اذا تعدّت الشخصين، لكن سر الجفرا تشاركه كل سكان القرية قبل النكبة، وأخفوه عن الناس تحت ضغط أهلها المتشددين في أمور كهذه.
للحقيقة، تزوجت رفيقة من ابن عمها أحمد عزيز الذي أحبها وأحبته. كان يراها في البيارة بشعرها المشتعل احمراراً تحت الشمس، ويغازلها حين تسنح له الفرصة، حتى تقدم بالزواج منها. وفعلاً، تزوجا واستمر زواجهما أسبوعاً واحداً فقط لا أكثر! يُقال إنها ذهبت في اليوم السابع بحسب العادات لبيت أهلها لمناسبة "ردة الإجر" ولم تعد! تحدث كثيرون عن هجرها لأحمد، وقالوا إنها "طفشت" منه. لكن ما حصل في الواقع – بحسب جدتي وابنة عمها للجفرا- أن أمها لم ترد هذا الزواج من أساسه. حاولت منعها بكل الوسائل حتى عمدت الى الاتفاق مع أقربائها في الخفاء، لإفشاله. فما كان من شباب عائلة أمها الا أن انتظروا زوجها أحمد في احدى الطرقات ليلاً، وانهالوا عليه بالضرب المبرح، وأجبروه –رغماً عنه وفي ظروفٍ غامضةٍ تشبه الأفلام- على تطليقها.
منذ ذلك اليوم غدا أحمد عزيز يناديها بـ"الجفرا"، أي الصغيرة الجميلة، ويدور في البيارات بين الزيتون بحثاً عنها، بحثاً عن محبوبته التي هواها وتزوجها لأسبوع واحد فحسب، زاده الفراق تعلقاً بها، فالعشق بالفراق يزيد. قيل بعدها أن أحمد عزيز "خُوت" أي جُنّ، بات يكلم نفسه في الليل ويكتب الشعر يومياً لجفرا (منذ أربعينيات القرن الماضي). بالرغم من أن جفرا أُجبرت على الزواج فيما بعد من شاب آخر من أقرباء أمها، الا أن "أحمد الجفرا" (هكذا بات اسمه ولاحقاً أبوعلي الجفرا) لم يتزوج لفترة طويلة وظل مقتنعاً بأن حبه سيعود. فأخذ يلحن الشعر ويغنيه في كل المناسبات. لم يكن يفوت حفلة زفاف الا ويذهب ليغني للجفرا، كان يعلم أن أهل كويكات لا يهدأون ولا يملون الحديث، وكان واثقاً من أن شعره سيصلها، وأن جدتي بالأخص ستخبرها بكل شيء. لكن الأمر خرج عن سيطرته، أصبح بنظر أهل القرية مجرد "مجنونٍ" ولن يعود الى رشده الا إذا تزوج. فأقنعوه بالزواج من غيرها.
سكن أحمد الجفرا في مخيم الرشيدية فور خروجه من فلسطين إبان النكبة، بينما استقرت الجفرا في مخيم برج البراجنة. ومع السنين، يقال إنه جرب أن يلتقيها كثيراً ونجح في بعض المرات. وفي حادثة غير معتادة من قبلها، وافقت على حضور زفاف ابنته "صنوبرة" حيث غنى لها هذا البيت الشهير: " جفرا و يا هالربع/ يم الصدر الدالع/ قالتلي تفضل يا عين/ ما في الك مانع". فأثار هذا البيت الشعري – حسبما أخبرت رفيقة جدتي- غضب أهلها واعتبروه منافياً لأخلاق سكان الكويكات.
بعد مرور سنين، وحين علمت بأن هذه المرأة المسنة والتي تزور جدتي وتجلس معها أمام الدار وتعطيني حلوياتٍ وأطايب حينما كانت تراني، هي ذاتها تلك الشخصية "الأسطورية" التي عشقها كل فلسطيني، وأحبت التمثّل بها كل فلسطينية، كان صعباً عليَّ أن اقتنع ببساطة أن "الحجة" التي كنت ألعب مع حفيدتها الصهباء – مثلها- هي الجفرا! ألم أقل لكم أن "سودة" بحر من الأسرار؟
6 تعليق
التعليقات
-
قصة عاشقين من فلسطين بعدأن اطلعت على قصة جفرا في معظم المواقع الالكترونية وجدت أنها منقولة بنسبة 90 في المئة من كتاب الدكتور عزالدين المناصرة المعنون ب ( قصة عاشقين من فلسطين : جفرا الشهيدة وجفرا التراث) ... والكتاب هو توسيع لنواة البحث الأول للشاعر المناصرة المنشور في ( مجلة شؤون فلسطينية عدد حزيران 1982) التي كانت تصدر عن مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت.
-
كتاب جفرا الشهيدة وجفرا التراث 1982 بعد اطلاعي على كتاب الشاعر الدكتور عزالدين المناصرة ( قصة جفرا الشهيدة وجفرا الترا ث ) .. أجزم أن 90 في المئة من قصة جفرا منقولة عن هذا الكتاب.
-
أخبار أخرى عن جفرا سكنت جفرا مع عائلتها في مخيم برج البراجنة بعد 1948 وكانت خياطة ماهرة فأسست (مشغل تطريز ) وكبر المشغل حتى عملت فيه 15 عاملة. - (عادة الترهيب) كانت شائعة في أربعينات القرن الماضي.وقد مارسها ( أحمد عزيز ) ليلة الدخلة ... فهربت في الليلة نفسها الى عائلتها. حاول أحمد عزيز استرجاعها لكنه فشل فانفصلا رسميا. - اشترت جفرا وزوجها محمد ابراهيم العبدالله وهو ابن خالتها ( منزلا في حارة حريك). وأنجبت أولادا وبنات كبروا وتزوجوا. - في عام 1973 سمحت حكومة الاحتلال الاسرائيلي لجفرا ( رفيقة نايف الحسن ) بزيارة مسقط رأسها ( كويكات ) المهجرة عن طريق معبر الناقورة... بكت كثيرا عندما وصلت هناك. و أخذت معها في طريق عودتها الى لبنان ( حفنة من تراب كويكات ). - ظل أهالي كويكات يروون قصة هذا الحب من طرف واحد سرا وهمسا منذ 1939 حتى 1982 بسبب التقاليد الريفية حتى تم الكشف عن الموضوع كاملا الشاعر الفلسطيني الكبير ( عزالدين المناصرة ) بتاريخ 22-2-1982 عندما أحيا أمسية شعرية في مخيم عين الحلوة .. وجاء الكشف عن طريق الصدفة بعد أن قرأ قصيدته الشهيرة ( جفرا أمي إن غابت أمي ) التي غناها مارسيل خليفة عام 1976. وهي من نوع (الشعرالحر التفعيلي الفصيح ).
-
جفرا... وبالأخضر كفناه... ويا عنب الخليل.. ويتوهج كنعان يقول الروائي الجزائري ( الطاهر وطار ): ( عزالدين المناصرة .. لا يقل أهمية عن محمود درويش في ( الشعر ) ولا يقل أهمية عن ادوارد سعيد في ( النقد الثقافي ). - صدر له أحد عشر ديواناشعريا مشهورا ومؤثرا هي ( يا عنب الخليل 1968- قاع العالم 1969- مذكرات البحر الميت 1996- قمر جرش كان حزينا 1974- بالأخضر كفناه 1976- جفرا أمي 1981- كنعانياذا 1983- حيزية عاشقة من رذاذ الواحات 1990- مطر حامض 1992- لا أثق بطائر الوقواق 2000- البنات البنات البنات - 2009. - هو كما قال الدكتور غسان غنيم ( جامعة دمشق )... ( قصائده تضاهي أعلى نماذج الشعر العالمي ). وتقول الباحثة الايرانية ( مريم السادات مير قادري) في كتابها ( الشاعر المناصرة في النقد الأدبي الايراني الحديث ) بأن المناصرة ( شاعر عالمي بكل المقاييس ). ويقول أحد الصحافيين هو ( شاعر عالمي مجهول ). وقد نشر عن شعره مايقرب من 30 كتابا نقديا علميا أغلبها رسائل ماجستير ودكتوراه. وطبعت أعماله الشعرية ( 9 طبعات ) في مجلدين . - هو الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي حمل السلاح في المرحلة اللبنانية للثورة الفلسطينية 1972-1982.
-
جفرا كويكات وجفرا النابلسيجفرا كويكات هي (رفيقة نايف حمادة الحسن) عاشقها هو ( أحمد عبد العزيز علي الحسن ).. وهما أبناء عمومة أي من عائلة واحدة في بلدة كويكات- قضاء عكا .. كتب كتابه عليها لكنه في ليلة الزفاف ضربها ضربا مبرحا على وفق التقاليد الشعبية( قطع رأس القط قبل ما ينط ).. فهربت الى بيت خالتها.. وتزوجت لاحقا من محمد ابراهيم العبدالله ( ابن خالتها ). - أما العاشق الأول ( أحمد عزيز ) فقد تزوج لاحقا من امرأة أخرى... تهجرت العائلتان الى لبنان وانقطعت العلاقات تماما فقد عاشت جفرا في ( حارة حريك وبرج البراجنة ) وعاش أحمد عزيز في ( الرشيدية وعين الحلوة ). ولم يلتقيا سوى مرة واحدة عندما كان يسكن الناعمة على فراش الموت حين طلب رؤيتها فلبت نداء الواجب لأنه ابن عمها. - أما العاشق الثاني( عزالدين المناصرة ) فهو من مواليد الخليل بفلسطين الجنوبية عام 1946 فقد عشق فتاة فلسطينية ساحرة كما يصفونها اسمها الحقيقي ( جفرا النابلسي). استشهدت بعد غارة اسرائيلية على بيروت فقد كانت طالبة في الجامعة اللبنانية لم تكمل فصلها الأول. وكان العاشق يعمل في محررا ثقافيا لمجلة فلسطين الثورة النطقة بلسان منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت. عام 1976... بكى عليها شهورا وكتب في رثائها قصائد عدة منها القصيدة التي يغنيها مارسيل خليفة وأخرون. وقد أصبحت قصيدة عالمية وصفها الفيلسوف الفرنسي ( جاك ديريدا ) بأنها ( السحر بعينه ) عندما أنشدها المناصرة في مسرح موليير الباريسي وتمت قراءة ترجمتها الفرنسية و بحضور ديريدا ورودنسون وتودوروف وبحضور صديقه محمود درويش وفدوى طوقان.... العاشق الثاني مازال على قيد الحياة - الشاعر البروفيسور المناصرة هو أيضا الذي اكتشف ( أحمد عزيز وجفرا) وصاغ القصة الواقعية عن الأسطورة التراثية عام 1982.