القاهرة | حتى الرئيس الأسبق حسني مبارك، قبل إزاحته عن السلطة، كان حريصاً على منع الاصطدام الخشن بالرأي العام، بل تقديم كباش فداء لتهدئته في حالات الانتهاكات الفاضحة التي يصاحبها غليان شعبي. من ذلك، السماح بإحالة ضباط شرطة على المحاكمات، والحكم عليهم في قضايا حساسة كتعذيب عماد الكبير، ومقتل خالد سعيد.أما السلطة الحالية، فيبدو أنها لا تعير الرأي العام اهتماماً في الأساس، بقدر ما هي معنية بتضافر أذرعها (ما هو قانوني وأمني وسياسي) للتخديم على السلطة ومساندتها فحسب، أو كما صرح وزير الداخلية، محمد إبراهيم، في كانون الأول الماضي حينما قال: «نحن في العصر الذهبي لترابط مؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء».

الترابط في مفهوم إبراهيم تُرجم عملياً بقرارات حظر النشر في قضايا شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وصولاً إلى قتل الضحايا على يد ضباط شرطة، إذ يكفي أن يكون المتهم ضابطاً في الشرطة حتى يحظر النائب العام النشر في القضية، ما يعني وفق تجارب سابقة للمصريين «موت القضية» ونسيانها.
لا فرق بين ضابط متهم بقتل ناشطة سياسية في تظاهرة محدودة في ميدان طلعت حرب، كما في حالة شيماء الصباغ، أو ضابطين متهمين بتعذيب محام حتى الموت كما في حالة كريم حمدي، الذي لقي مصرعه داخل قسم شرطة المطرية، والقسم وحده سجل «ثلاث حالات قتل نتيجة التعذيب خلال الأسبوع الماضي فقط».
النائب العام، الذي تولى منصبه عقب عزل محمد مرسي، أيضاً أصدر العديد من قرارات حظر النشر خلال الفترة الماضية، وأبرزها منع النشر في «حادثي تفجير كمين شرطة الضبعة وبرج العرب، وتزوير الانتخابات الرئاسية 2012، وحادثة كرم القواديس في سيناء، ورشوة ميناء بورسعيد، ومقتل شيماء الصباغ، وقضية أنصار بيت المقدس، ومقتل كريم حمدي...».
بالطبع، يتفهم الجميع حظر النشر في القضايا التي تتعلق بالعمليات الإرهابية ضد الجيش الذي يخوض معركته ضد الإرهاب في سيناء، لتأثيراتها في الأمن القومي، لكن من غير المفهوم حظر النشر في أحداث «جنائية» يكون المتهمون فيها ضباط شرطة، وهذا يظهر كأنه تغول من السلطة القضائية في استخدام صلاحياتها... حتى وإن أدت إلى منع الرأي العام من الاطلاع على حقيقة ما جرى.
كذلك تبدو السلطة حريصة على ألّا تغضب ضباط وزارة الداخلية، فهم عصب النظام في مواجهته المفتوحة مع عناصر الإخوان المسلمين المحظورة، لأن تقديم كباش فداء منهم أمر سينتقص هيبة الشرطة التي تبحث عن استعادة دورها في المجتمع، ومنع العودة إلى ما قبل 25 يناير.
حتى التزام المؤسسات الصحافية والإعلامية بحظر النشر لم يمنع رواد مواقع التواصل الاجتماعي من تدشين هاشتاغ «#كسر_حظر_النشر» وتداول أسماء الضباط المتهمين، بقتل شيماء الصباغ وكريم حمدي، وقد شهد الهاشتاغ مشاركة واسعة حتى من بين الصحافيين والإعلاميين.
في المقابل، أغضب حظر النشر في القضايا المحامين، ومنهم مقرر اللجنة القضائية في نقابة المحامين، فكري محمد مصطفى، الذي أوضح أنّ من المفترض أنّ حظر النشر «إجراء استثنائي» في القضايا التي تتعلق في الأمن القومي وسلامة مؤسسات الدولة، أو لمنع إثارة فتنة طائفية بين أطياف المجتمع، لكن التوسع في قرارات حظر النشر في جرائم تتعلق بكون المتهمين ضباط شرطة، هو «قرار غريب» من النيابة العامة، وليس له تبرير إلا الرغبة في «التعتيم» على الأخبار ووقف نقل الحقائق وتوضيحها للرأي العام.
يضيف مصطفى في حديث إلى «الأخبار» أن النيابة لم تكتفِ بحظر النشر إعلامياً في القضية، وإنما استمرت غرابة قراراتها في مطالبتها النقابة بتقديم ما يفيد «ممارسة المحاماة» لضحية التعذيب كريم حمدي، الذي لقي مصرعه نتيجة التعذيب في قسم المطرية، رافضة الأخذ بشهادات القيد التي قدمتها النقابة، ومطالبة بتقديم «التوكيلات القانونية وأوراق المرافعات» الخاصة بالقضايا التي يتولاها المحامي المغدور. وتساءل: «ما هي علاقة النيابة بهذا الأمر، فالجهة الوحيدة المسؤولة عن قيد المحامين هي النقابة، والنقابة قدمت ما يفيد بأنه مقيد في سجلاتها، فماذا تريد النيابة؟».
المحامون الغاضبون لزميلهم، نظموا مسيرة من نقابة المحامين إلى مبنى دار القضاء العالي حيث مقر النائب العام، وتظاهروا في أروقة الدار مطالبين بالقصاص لزميلهم المغدور، وملقين باللوم على النائب لحظره النشر في القضية، في مشهد أعاد أجواء سنوات ما قبل 25 يناير، حيث شكلت دار القضاء العالي قبلة للتظاهرات، آنذاك.
أما غضب الإعلاميين من حظر النشر، فدفع عدداً من الصحافيين إلى مطالبة النقابة بتوفير مظلة لهم، من أجل كسر الحظر وحمايتهم من الآثار القانونية المترتبة على هذه الخطوة. لكن عضو مجلس النقابة، حنان فكري، قالت إن حظر النشر له شقان: الأول قانوني من حق النائب العام استخدامه في منع النشر في بعض القضايا التي يعيق النشر فيها وإثارتها للرأي العام الوصول للحقائق، أو التأثير في مجريات التحقيق، ووفقاً لقانون النقابة، فإنّ من المفترض منع تناول القضايا التي يجري التحقيق فيها حرصاً على مجرياته.
رغم ذلك، إن التزايد في حظر النشر في القضايا التي لها بعد سياسي خوفاً من ردّ فعل المجتمع، أو لعدم إعطاء رسائل سلبية عن بعض مؤسسات الدولة، ترجمته الوحيدة أن حظر النشر يعني «موت القضية» كما في قضية شيماء الصباغ، تقول فكري، التي تتساءل عن السبب الحقيقي لحظر النشر، رغم أن كل الدلائل واضحة.