في فلسطين لا شيء يشبه البلاد الأخرى، حتى الصراع بين الأشقاء لا يشبه البلاد الأخرى. هنا في فلسطين تتضاعف أحجام الأشياء، ترسم ملامحاً جديدةً تختلف عن سواها من البلدان، فالاحتلال يجعل الكل متحفزاً، ذلك بات سمةً خارجيةً/ داخلية لكل العلاقات الإنسانية الموجودة. الجمل البسيطة في فلسطين باتت تعني أيضاً شيئاً مختلفاً. مثلاً: لا تقول الأم لابنها في معرض خلافٍ بسيط: "الله يوخدك". لأن ذلك قد يكلّفها فقدانه فعلياً، فالفقدان أمرٌ معتادٌ في فلسطين.
هنا أيضاً لا يقول اثنان لبعضهما: "انشالله عمري ما أشوفك" لأنه فعلياً قد يغيب وفي ثانيةٍ سريعة لا يدرك وقتها أحد.
تشبه النهايات البدايات هنا في فلسطين، المواليد يعانقون آباءهم الشهداء، هكذا بكل بساطة، سوريالية الأشياء تشبه تناقضاً في لوحةٍ أو فيلمٍ لكنه الحقيقة كما هي من دون مواربة. خلال العدوان الماضي دخلت والدةٌ حامل في شهرها الأخير لتختبئ في المشفى الوحيد المضاء في القطاع المقاوم، وفجأة جاءها المخاض، فما كان منها إلا أن أودعت طفلها وليداً جديداً، ورحلت هي كشهيدةٍ لأنَّ الإمكانات الطبية لم تتح لها البقاء حيةً.
كل شيء لا يشبه أي شيء، الأم تودّع جنينها، هي راحلةٌ كشهيدة، وهو قادمٌ كمولود. في غزة كما في كل فلسطين، تستتبع الأحاديث البسيطة جملاً مخيفةً أكثر، يعني "روح وما ترجع" قد يكون معناها أننا قد لا نراك مرةً أخرى، فالطيران والقذائف والصواريخ لا تميّز بين أحدٍ وأحد، فجأة تجد أحبابك غائبين، ومشكلة الموت أنه ببساطة لا يعيد من تحبهم، حين يأخذهم. مشكلته أنه في لحظةٍ ما تجد نفسك خارج كل الزمان والمكان، تجد أن هؤلاء، من أحببتهم يوماً أصبحوا في بلادٍ لا يعود منها أحد، مهما حاولت ومهما حاولوا.
في فلسطين، لا شيء يكون كما تريده أن يكون، أو تحبه أن يكون، هي بلادٌ تعيش في جانبٍ مجهولٍ من الكوكب، لا يعرفها أحد، ولا يهتم بها أحد، سيقول لك كثيرون بأن فلسطين تعنيهم، قد يكون كلامهم صائباً لكنها تعنيهم بمقدار ما هي "رمزٌ"، "خيال"، كلامٌ شعري يقرأ، لكن في الحقيقة وعلى "تطبيق" الأرض لا نجد أبداً أي شعورٍ حقيقي لما يمر به هؤلاء الناس. قبل مدّة زمنية جاءت العاصفة الأخيرة إلى فلسطين، فاستشهد أكثر من عشرة أشخاصٍ بعضهم برداً، وبعضهم احتراقاً وهم يحاولون دفع البرد عنهم، هل عرف أحدٌ أو اهتم بأن من استشهد كان لأنه موجودٌ في خيمةٍ تحت برد الشتاء والعاصفة؟ لا ليس هناك من معرفة، وإن كانت بسيطةً ويمكن معرفة الخبر بسهولةٍ مع انتشار الثقافة الرقمية حالياً.
باختصار في فلسطين لا شيء يشبه أياً مما حولك، فلا تحاول أن تتوقع حال فلسطين، في فلسطين احتلال وهو أمرٌ مفهوم، ومتوقعٌ بشراسته ومعروف بـ"حقارته"، لكن ما هو غير معروف هو ظلم القريب قبل البعيد، ففي فلسطين هناك قريبٌ يحاصرك، فيمنع حتى تنفسك، وفوق كل هذا يلومك على شيء لا تلام عليه.
في فلسطين هناك تنظيماتٌ وأحزاب لا همَّ لها إلا أن ينتصر "حزبها" على ما عداه، وسواء قتل الشعب الفلسطيني بكامله أو أبيد، سيان. المهم أن تنتصر الجماعة أو الحزب، المهم الأوحد والوحيد هو أن نبقى في سدة الحكم، حتى ولو لم نجد أحداً نحكمه: المهم أن نبقى نحن، ويبيد الآخرون.
في فلسطين، كثيرٌ من حكايا لا يود أحدٌ سماعها لأنّها تؤرق منامه، وتجعل من الصعوبة عليه كتابة الشعر وقرضه، والتفرج على التلفاز، وقراءة الأخبار. في فلسطين، لا شيء يشبه أي شيءٍ مما تعودت عليه.