لا تخفى الاهمية التاريخية والاثرية لكل المنطقة الممتدة من بلاد ما بين النهرين حتى مصر، وهي المنطقة التي شهدت اولى المراحل الكبرى في مسيرة البشرية، وخاصة في العصر الحجري الحديث او النيوليتي (من 8 الاف الى 4 الاف سنة قبل المسيح). وقتها انتقل الانسان في اواخر الدور الباليوليتي واوائل الدور النيوليتي الى مستوى متقدم من المعرفة، فتحول من الترحال والقنص الى الاستقرار والزراعة والتحضر، مع ما يعنيه هذا من اثر في نتاجه الثقافي واشكال اجتماعه.
وترافق الاستقرار والزراعة مع تدجين الحيوان وتأمين شكل من اشكال المسكن، وبالتالي تضخم التجمعات البشرية ونشوء القرى، وانتهى الدور النيوليتي بعصر المعادن ثم اكتشاف الكتابة وبدء عصر التاريخ مع حفظ مادة مكتوبة.
توافرت الظروف المناخية والجغرافية في هذه الفترة في جنوب غرب اسيا، من وادي النيل حتى افغانستان، مرورا بمنطقتنا في لبنان وسوريا والعراق واسيا الصغرى وايران، لجهة المناخ الملائم والسهول المروية، فنما الاجتماع البشري وزرع الانسان الحبوب وانواعا من الخضار، اضافة الى تدجين بعض الحيوانات كالماعز والابقار والخنازير والكلاب. وبدأت تتبلور بعض معطيات الدين وظهرت تماثيل الالهة المنحوتة.
وخلال الالف الرابع قبل الميلاد ظهرت الكتابة في كل من حوض النيل وبلاد ما بين النهرين على نحو منفصل وشبه متزامن، وهو مؤشر على مستوى التطور الحضاري الذي بلغته الجماعات البشرية في هاتين المنطقتين.
وبالتطرق الى بلاد ما بين النهرين، فهي تمتد جغرافيا من الخليج الفارسي والجزيرة العربية جنوبا الى جبال ارمينبا وزاغروس شمالا، ومن البادية السورية غربا الى جبال ايران شرقا. ويغلب على بلاد ما بين النهرين الجبال والهضاب شمالا، والسهول في الوسط والجنوب، والهضاب الصحراوية في الغرب.
وكمصر التي يقول عنها هيرودوت انها هبة النيل، فهذه البقعة الحضارية هي ابنة النهرين العظيمين دجلة والفرات. وبعكس مصر، فبلاد ما بين النهرين مفتوحة على تأثيرات اكبر بحكم موقعها الجغرافي، تمتد من الهند شرقا الى اسيا الصغرى والقوقاز شمالا، وغربا وجنوبا الى المتوسط ومصر.
دلت الحفريات الاثرية على ان بلاد ما بين النهرين كانت مسكونة منذ عصور ما قبل التاريخ، وعرفت حضارة متقدمة، ولا سيما في أور وجمدت نصر واريدو وغيرها من المواقع.
ومنذ الالف الرابع حتى القرن الخامس تعاقبت على بلاد ما بين النهرين شعوب عديدة، اسست كيانات سياسية مختلفة، وكان لهم اسهامات مهمة في تاريخ المنطقة.
جرى تدمير قطع من الحقبتين الآشورية والبارثية، وتعود بعضها إلى فترة ما قبل الميلاد

اول هذه الشعوب، السومريون، الذين تميزوا منذ الالف الرابع قبل الميلاد (3200 ق. م) بمعرفتهم للكتابة والاعداد والتقويم والرياضيات وعلم الفلك. واسسوا مدنا عديدة غير موحدة سياسيا كأور، اوروك، اوما، لاغاش، لارسا وماري. في اواسط القرن الثامن والعشرين (2750) تمكن ملك اوما من توحيدها سياسيا، لكن دولته سقطت بيد الاكاديين الذين اسس ملكهم سرجون الاول مدينة قرب بابل تغلبت على السومريين.
تعاقبت شعوب اخرى على بلاد ما بين النهرين، وصولا الى الاشوريين، الذين كانوا يقطنون في شمال العراق، منذ مطلع الالف الثالث، وخضعوا لشعوب مختلفة، الى ان استقل ملكهم اشور اوباليت الاول واحتل بابل، وبدأ توسعهم مع تغلت فلاسر الاول (1112- 1074) الذي وصل الى البحر الاسود والبحر المتوسط. وبلغوا ذروة قوتهم في القرن الثامن قبل الميلاد، مع تغلت فلاسر الثالث (745-727) حيث سيطر الاشوريون على بلاد ما بين النهرين بكاملها اضافة الى سوريا وفينيقيا وفلسطين، وصولا الى مصر التي احتلها اشورنيبال (668-626).
بدأت بعدها مرحلة الضعف التي انتهت باحتلال مدينتي اشور (614) ونينوى (612)، وظهور السيطرة البابلية على انقاضها.
حتى القرن التاسع عشر كانت المعلومات عن هذه المنطقة من العالم تقتصر على ما ورد في العهد القديم وبعض اخبار الرحالة القدامى من اليونانيين واخبار هيرودوت.
ومع نمو الدراسات الغربية عن المنطقة، من العراق الى مصر، وخاصة بعد حملة نابوليون العسكرية (1799)، وامكانية الوصول والتنقيب في بلداننا التي كانت جزءا من السلطنة العثمانية، بدأت عمليات البحث والحفريات في بلاد ما بين النهرين على يد قنصل فرنسا «بوتا» عام 1842. وتوالت بعدها عمليات التنقيب بين بعثات مختلفة، انكليزية (1845)، بعثة فرنسية ثانية (1851)، اميركية (1889) والمانية (1899). وقد جرى اكتشاف اثار رائعة، نُقل قسم منها الى متاحف غربية كباريس ولندن وبرلين، وإلى بعض المتاحف الاميركية، وخاصة في فيلادلفيا، واخرى في البلدان المحيطة كمتاحف طهران وبيروت ودمشق واسطنبول، او الى المتاحف العراقية نفسها كالمتحف العراقي في بغداد او متحف الموصل.
يعد متحف الموصل ثاني متاحف العراق بعد متحف بغداد، تأسس سنة 1951 وكان يقتصر على قاعة صغيرة قبل توسيعه في 1972 لعرض مجموعات مختلفة، ولا سيما تلك التي عثر عليها في نينوى. وهو يضم اربع قاعات عرض كبرى مخصصة للاثار القديمة (عصور ما قبل التاريخ) والاشورية والحضرية (اثار مدينة الحضر) والاسلامية.
مع الغزو الاميركي للعراق اقفل المتحف ابوابه سنة 2003 حفاظا على المقتنيات بعد عمليات النهب المنظمة برعاية الاحتلال لعدد كبير من المواقع الاثرية والمتاحف ومنها متحف بغداد. قبل ان يعاد فتحه في 2012 لتلامذة المدارس وطلاب الجامعات. في الوقت نفسه بدأ في ايلول من العام نفسه العمل بمشروع تأهيل المتحف تمهيدا لفتحه للعموم.
مثّل الاحتلال الاميركي للعراق وما رافقه من دمار ونهب واستباحة، منظمة ومرعية في قسم منها، الى اضرار كبيرة لحقت بالثروة التاريخية لهذا البلد، تمثلت بتدمير مواقع اثرية عديدة بفعل الاعمال الحربية او اعمال النهب والتنقيب غير المشروع بهدف الاتجار باللقى الاثرية، وسرقة مقتنيات المتاحف، اضافة طبعا الى غياب الصيانة والاهتمام، مثّل خسارة كبرى لا تعوض في اجزاء منها، ولا سيما التي طاها الدمار. وكان من نتائجه فقدان اعداد كبيرة من التحف التي جرى تهريبها الى خارج العراق وبيعت لجامعي اثريات او لمتاحف عالمية وبواسطة دور مزادات معروفة، والعمليات موثقة في قسم كبير منها. اما القسم الثاني، فكان مصيره التدمير محليا.
مع عودة اعمال العنف الى العراق، وخروج مناطق واسعة عن سلطة الحكومة المركزية، عاد التهديد الكبير ليطاول مواقع عديدة في العراق، بالرغم من ان التغطية الاعلامية لما يحصل هزيلة، وخاصة أن اخبار القتل والتهجير التي تصل من المناطق التي سيطر عليها الاسلاميون تطغى على ما عداها.
لكن الواقع ان الخسائر في كل من سوريا والعراق، في المناطق غير الخاضعة، كبيرة ومتمادية منذ اشهر، وبرز منها تفجير عدد من الكنائس والاضرحة الصوفية وعدد من المساجد (كمسجد النبي يونان وهو كنيسة قديمة جرى وضع اليد عليها منذ قرن ونيف)، وحرق مكتبة الموصل، حيث فجّرالتنظيم المبنى المركزي للمكتبة في منطقة الفيصيلة وسط المدينة، وأحرق محتوياتها من الكتب والوثائق والمخطوطات التي بينها مؤلفات نادرة، وصولا اخيرا الى غزوة متحف الموصل، حيث نشر تنظيم الدولة الاسلامية فيديو مدته نحو الخمس دقائق يظهر فيه عناصر ملتحين يعتدون على مقتنيات المتحف بواسطة المطارق وادوات الحفر على وقع الاناشيد الاسلامية.
اذا كان من الصعب اجراء جردة دقيقة بالاضرار التي طاولت المتحف، نظرا لتعذر الوصول اليه والقيام بالعملية ماديا، ففي الفيديو ما يكفي لاظهار فداحة الخسارة.
فمن بين التماثيل المحطمة يظهر تمثال للثور الآشورى المجنح داخل المتحف يعود تاريخه إلى القرن التاسع قبل الميلاد، كما يوضح الفيديو تدمير ثور مجنح آخر موجود في «بوابة نركال» الأثرية في مدينة الموصل، علما أن الثورالمجنح يعد رمز الحضارة الآشورية التي ازدهرت في العراق وامتدت سيطرتها حتى وادي النيل.
والثور المجنح هو تمثال ضخم يبلغ طوله 4.42 أمتار، ويزن أكثر من 30 طنا بجسم ثور وجناحي نسر ورأس إنسان.
وكان يرمز إلى القوة والحكمة والشجاعة والسمو، وقد اشتهرت الحضارة الآشورية بالثيران المجنحة، ولا سيما مملكة آشور وقصور ملوكها في مدينتي نينوى وآشور في شمال بلاد ما بين النهرين.
اضافة الى قطع من الحقبتين الآشورية والبارثية، وتعود بعضها إلى فترة ما قبل الميلاد.
واشار خبراء الى ان القطع المدمرة بعضها اصلية وكاملة، والبعض الاخر غير كامل انما اعيد تركيبه من حطام الشكل الاصلي بهدف عرضه، اضافة الى قطع غير اصلية عبارة عن نسخ (moulages) لقطع اصلية موجودة في متاحف اخرى كتلك المذكورة سابقا.
واذا كان تنظيم «داعش»، وغيره من التنظيمات خاصة في سوريا، يستفيدون من الاتجار بالاثار كمصدر من مصادر تمويلهم، فالاكيد ان لجرائم التدمير كتلك التي حصلت في الموصل بعدا اخر عقائديا دعائيا فاقعا، مرتبطا بتأصيل النص والتراث الدينيين عند بعض الفئات. مع العلم ان اشكالية التصوير البشري –والحيواني- في الاسلام اعقد من ان نتناولها على نحو هامشي، الا ان المحقق هو ان الخسارة اكثر فداحة يوما بعد يوم، وان المسألة تستحق اهتماما اكبر بكثير من الانفعال العاطفي المرافق لاحداث من نوع ما حصل في الموصل.