"والله اذا بيموت قبلي، لأفرح وأمشي بالطريق بلا أواعي... هيك بالزلط يعني".منذ أن أتقنت قدماي المشي ضمن أرجاء بيتنا، وأنا أرى أن لجدتي "سودة" غرفة خاصة بها، لا يفصلها عن غرفة جدي الا حائط وشباك صغير. لها سريرها وتلفازها الخاص، وله مثلهما تماماً. وإذا استثنينا افطارات شهر رمضان التي كانت تجمع العائلة بكاملها على مائدة واحدة، فيسعنا القول انه نادراً ما وجدناهما يتشاركان الطعام او الجلوس او حتى الحديث سوياً. وفي السنوات العشر الأواخر، لم يعد حتى رمضان يحرجهما الى درجة اللقاء أمام الأبناء والأحفاد.

لطالما استغربت هذه الحال، فلا أحد منهما يحدثنا عن السبب. سألت أمي ذات مرة، فأجابتني ان الأمور هكذا منذ أن تزوجت أبي، أي منذ ما يزيد عن 30 سنة. من اللحظة التي جاءت بها "سودة" الى منزل والدتي لطلب يدها، وهي ترى أن كلاً منهما لا يشارك الآخر في شيء!
وعينا نحن الأحفاد ونحن نسمي الغرف،"أوضة ستي" و"أوضة سيدي". لا شك أننا نحتفظ ببعض اللحظات التي دخل فيها جدي "حيدر" الى غرفتها ولكن فقط ليحضر ثيابه من الخزانة الموضوعة داخلها. وعلى الرغم من كونها خزانة مشتركة، الا أن سودة كانت تقفل القسم الخاص بها وتحتفظ بالمفتاح في صدريتها.
لم يغير الزمن شيئاً في علاقتهما، ظل يسألها عما إذا كانت تريد أن يجلب لها "لحم بعجين" وهي ترفض بحدة كل محاولاته المتواضعة وإن كانت دؤوبة. لكنه لم يكن بالشخص السهل على الإطلاق. يُقال إن الاخوة (أبوه وأبوها) اتفقا على تزويجهما. منذ أن ولدت سودة في فلسطين في العشرينيات من القرن الماضي، وقدرها مرسوم حسب الاتفاق، "فابن عمها أولى بها"، كما كانت تجري العادات، ولربما حتى الآن، في القرى والمناطق الريفية. ولأنها كانت شديدة الجمال كما كنا نسمع، كان لها بعض المعجبين والطامحين الى الزواج بها، ما كان يثير غيرة وغضب ابن العم كثيراً.
سارع حيدر الى الزواج منها، لم ينجبا الا بعد أربع سنوات. لا أعلم ان كانا يعرفان بعضهما أكثر من كونهما "أبناء عمومة"، وللعلم، فإنَّ حيدر وسودة قد أنجبا سبعة أطفال، أصبحوا في ما بعد آباء وامهات، فكيف حدث ذلك؟
ظل السؤال هذا يلح في عقلي وعقل كثيرٍ من إخوتي وبنات عمي وعمومي. كيف أنجبا كل هؤلاء دون أن يكون هناك رابطٌ بينهما إلا ذلك الحائط والشباك الصغير. هل ينفع إنجاب الأطفال بحائطٍ وشباك كهذا كفاصل شرعي؟ كنت يومياً أفتش عن حلٍ لهذه المعضلة، ولكن سرعان ما كثرت مشاكل الحياة، وكبرتُ فجاة لأجد أنه لا مكان لهذه الأسئلة، فالجميع يتقبّل الأمور كما هي، ولا يسأل كيف ولا لماذا.
لكن ما أذكره حثيثاً هو جملتها التي علقت في ذاكرتي كطفلةٍ صغيرة، لقد تمنت الموت للرجل الذي تزوجته وعاشت معه طوال حياتها، "ستي" سودة كانت ستفرح لو أنه مات قبلها حتى وهي في الثمانين من عمرها؟ هل كانت تكره الرجل إلى هذا الحد؟ هل كانت تكره مجرد فكرة ارتباطها بهذا الحيدر؟ هل كان لهذه الدرجة سيئاً؟ أما انها هي من كانت السيئة؟ أم أن كليهما كانا مزيجاً غير متجانس؟ ظلت الجملة تلحُ على عقلي: بماذا يفيد امرأة في الثمانين من عمرها رحيل زوجها؟ سؤالٌ قد يخلق أجوبة مضحكةً بعض الشيء، لكن في حالتي كان الضحك ابعد الأمور عن عقلي.
(يتبع)