لا يزال الجميع تحت الصدمة. كيف يمكن لهذا الفتى المتفوق والخلوق ان يفعل ما فعل؟ هو، شاب بريء، والضحية، وفاء، امرأة شارفت على الستين من العمر، توفي زوجها قبل عامين، وتسكن وحيدة في احد "بركسات" مخيم نهرالبارد، اذ ان الله لم يرزقها من الذريّة احدا.كانت الارملة تؤدّي صلاة العصر حين طرق الباب "محمد"، لم ينتظر طويلاً حتى انهت صلاتها وفتحت له، فجلست هي "تسبّح وتذكر الله، وما هي الا لحظات، حتى ذهب باتجاه ما يمكن اعتباره "مطبخاً" ليلتقط سكينين معاً ويعود ليبدأ بطعنها بكلتا يديه، وحين تمكنت من الهرب، تبعها وهو يضربها بالحجارة على رأسها وانحاء متفرقة من جسدها ويكيل لها شتّى انواع الشتائم.

وصلت الى منزل جارتها ام ناصر فرغاوي وهي تصرخ: انقذوني. جرى انقاذها وبقيت لساعات طويلة في غرفة العمليات لتقطيب ثقب في جوار القلب من جرّاء احدى الطعنات، وكانت بحالٍ من الخطر الشديد، وقد زوّدت بعشر وحدات من الدم لانها نزفت بشدّة.
سلسلة من الشائعات رافقت الحادثة، التي ضجّ بها "مخيم نهرالبارد"، لا بل غالبية المخيمات الفلسطينية والجوار اللبناني، ولا سيما ان الخبر انتشر عبر "المواقع الالكترونية" و"صفحات الفيس بوك" و"مجموعات الواتس اب" كالنار في الهشيم، ووجّهت اصابع الاتهام إلى شخص غير الفاعل الحقيقي بداية، الى ان كشفت المجني عليها بنفسها عن هويّة الفاعل الحقيقي حين عاد وعيها اليها.
عاد محمد الى بيته يضحك على نحو "هستيري"، وكان شيئاً لم يحدث، ما استرعى انتباه شقيقته الصغرى التي ايقظت والدتها من النوم لتطلع على وضع اخيها، الذي اعتقدت انه اصابه مس من الجنون. لحظات فاذا بالهاتف يرن. على الخط كان والد محمد الملهوف. يسأل زوجته: "هل محمد في البيت.؟"، فاجابته ان نعم، فابلغها ان ابنها متهم بطعن الجارة بالسكين!
لم تصدّق في البداية! لكنه طلب اليها بان تمنعه من المغادرة حتى يحضر من اجل تسليمه للجهات الامنيّة. عبثاً حاولت الام ان تفهم من ابنه: هل انت الفاعل؟ الا انه كان يضحك على نحو هستيري وباعلى الصوت وهو يقول لها: "تعرفين اني اخاف من منظر الدماء والسكاكين، فكيف لي ان اطعن امراة؟".
في الطريق وهو ذاهب الى تسليم ابنه للاجهزة الامنية حاول الاب وزوج الخالة ان يستدرجا محمد للاعتراف، وقد طمأناه إلى انهما سيهرّبانه من المخيم إذا كان هو الفاعل، لكنه كان يضحك ويبكي وينكر في الوقت ذاته. وصل الى "مقر المخابرات" وهو يضحك وبدا واثقا بنفسه، وما هي الاَ دقائق حتى خرج ضابط المخابرات ليبلغ الاب ان ابنه قد اعترف بفعلته.
أمر يكاد لا يُصّدق! ومع ذلك فالقصة حقيقية ولو انها شبيهة باحداث فيلم هندي من انتاج "بوليوود"، فكيف لهذا الفتى البريء ان يتعمّد القتل بهذه الطريقة البشعة؟ وما هي الاسباب والدوافع؟ ولماذا جرى اختيار وفاء تحديداَ؟
اسئلة محقّة وتساؤلات مشروعة على كل شفة ولسان هنا في المخيم.
وفاء ما زالت تقبع في "غرفة العناية المركزة" في أحد مستشفيات المنطقة ووضعها الصحي مستقر نسبياً وتتحسن ببطء.
اما محمد، فقد جرى تسليمه لاستكمال التحقيقات معه، تمهيدا لإحالته للقضاء المختص.
هنا، لم تنتهِ الحكاية، بل من هنا تبدأ.
فمحمد طالب المدرسة المتفوق، المهذب، الخلوق والخدوم وابن العائلة المحترمة «لم يكن في وعيه» كما تقول التحقيقات الاوليّة. ومن الواضح بحسب المحققين، وتقرير الطبيب الشرعي الذي عاين الفتى، انه كان تحت تأثير مخدر هلوسة جديد في السوق، من صفاته ان من يتناوله لا يهدأ حتى يرى الدم. ولذا فان اسمه هو … «دواعش»!
كيف أدمن الصبي اذا هذا المخدر الخطر؟ ومن اين حصل عليه؟ يروي للمحققين انه علم اين كان التجار يخبئون الحبوب، فما كان منه، وتحت تأثير الإدمان، الا ان نبشها (كانت مخبأة في حائط) وسطا على بعضها. وعلى ما يبدو، فقد تناول اكثر مما يجب، ما جعله في تلك الحال من الهيجان. اما كيف ادمنها؟ فيشكك الاهل وبعض العارفين بخبايا المخيم، بان تكون تلك الحبوب قد دست له في كوب النسكافيه في أحد المقاهي التي يجري فيها اصطياد الشباب في البداية، ثم اصبح الشاب مدمنا بدليل انه كان يشرب كميات ضخمة من النسكافيه التي اعتاد ان يشرب معها المخدر.
ويشيرون بالتحديد الى مقهى في المخيم يديره ر. ر. ويرتاده تاجر المخدرات الاشهر بالمخيم م.أ. ع ومعه موزع سوري اسمه بلال. واثر التحقيقات القي القبض على اثنين من المشتبه بهم، هما ب. أ. د. والثاني أ ح أ ن.
تفتح هذه الحادثة المؤسفة والغنية بالدلالات الخطيرة، الافاق على المشكلة الاكبر: اي تفشي "المخدرات" بين طلاب المدارس. فمحمد، في هذه الحال، يبدو مثله مثل وفاء، ضحية. بينما الجاني الحقيقي يسرح ويمرح ويتابع «عمله» بادخال المخدرات الى مخيمنا وبقيّة المخيمات التي باتت تتفشّى فيها هذه الظاهرة على نحو لافت ومريب. هذا العمل التخريبي الاجرامي يتعمد قتل جيل بأكمله وتخريب مجتمع.
وشريك المجرم من يتستر عليه، ومن يعرفه ولا يبلغ الجهات الامنية عنه، التي يبدو انها مقصّرة كثيراً على هذا الصعيد.
اذ ان "مخيم نهرالبارد" يكاد يكون المنطقة الوحيدة في لبنان التي تخضع لسلطة الدولة واجهزتها على نحو كامل ومنذ ثماني سنوات. ومروجو المخدرات ومدمنوها معرفون لديها بالاسم والشكل والعنوان، الا انها لم تُتخذ اي اجراءات صارمة بحقهم.
اما الفصائل الفلسطينية واللجان الشعبيّة؟ فهي ليست مقصّرة وحسب، بل تكاد تكون الغائب الوحيد عما يحصل، وهنا تحضرني حادثة حصلت في تسعينات القرن الماضي، اذ اعتقل الكفاح المسلّح الفلسطيني والقوّة الامنية الفلسطينية كل مروجي المخدرات ومدمنيها في جميع المخيمات في توقيت واحد. ثم علقوا لهم اجراسا في اعناقهم وطافوا بهم ارجاء المخيمات وازقتها وزواريبها بطريقة مهينة ومذلّة.
كذلك جُمع طلاب المدارس ليشاهدوا بأم العين حجم الذل والمهانة والاحتقار، الذي يتعرّض له مدمن المخدرات او مروجها، فكان ان اسهم هذا الامر بالحد بنسبة كبيرة من انتشار المواد المخدّرة في المخيمات.
فكل طفل وفتى من اولادنا عرضة لان يكون محمدا، وكلنا عرضة لان نكون وفاء!