اللاذقية | في سياق الأحداث المشتعلة في سوريا، نال الأرمن، كما غيرهم، نصيبهم من التهجير، لتعيد دروب النزوح ذكرى «سفر برلك» أو «قوافل الموت» التي مشاها أجدادهم، وقضى خلالها الآلاف منهم جوعاً وعطشاً.
«في صدر كل أرمني جرح قديم لا يندمل، هو لا ينسى المجازر التي ارتكبها الأتراك بحق أجداده، وفي ذاكرته دائماً مسيرات الترحيل، ومليون ونصف مليون أرمني قضوا قتلاً وجوعاً وعطشاً. وحين بدأت الحرب في سورية، وهجّرنا من بلداتنا، عادت جراحنا القديمة لتنزف من جديد»، هذا ما يقوله كارو مانجيكيان، الأرمني، الذي وصل إلى كسب قبل ثلاث سنوات، مهجّراً من حلب، على نيّة تأسيس حياته من جديد، فكانت تغريبة ثانية بانتظاره، إثر هجوم المسلحين على البلدة.
عاد كارو إلى كسب، بعد ثلاثة أشهر أمضاها وعائلته في بيت أحد أقاربه في اللاذقية، في اليوم الثاني لتحريرها، لتنكسر روحه بمشاهد المنازل والمحال المحترقة والمدمّرة. لكن نظرة إلى حقول التفاح كانت كافية ليدرك من أين ستبعث الحياة من جديد. «بات كل همي إنقاذ محصول التفاح، تعاونا جميعاً، واستطعنا أن نعيش هذا الشتاء من ثمن تفاحنا» يقول، ويتابع أنّ ابنته الكبرى اختارت السفر إلى أرمينيا لتكمل دراستها، موضحاً: «كثيرون هاجروا إلى أرمينيا في الآونة الأخيرة، فبعد النزوح من بلدة إلى أخرى هرباً من الموت، لم يبق أمامهم سوى الهجرة». وبهذا الصدد يروي، كارو، حكاية دكتور الأدب الأرمني، آغوب تشولكيان الذي وصل إلى كسب أيضاً هارباً من الموت في حلب، وما لبث أن اضطر إلى الهرب مجدداً، تحت وقع قصف البلدة، «فقرر الهجرة رغم حبّه الشديد لكسب التي ألّف الكثير من الكتب حول تاريخها، ولهجتها الخاصّة، وتاريخ الفن والرقص فيها» يقول كارو، الذي يُعَدّ محظوظاً، بعض الشيء، كغيره ممّن يمتهنون الزراعة، بخلاف أصحاب المقاهي والمطاعم والمحالّ التجارية، وهم من يشكلون النسبة الأكبر من أبناء كسب، البلدة السياحية بامتياز، التي باتت الريح تصفر فيها، تاركة معظم العائدين إليها دون مصدر دخل، ما اضطر العديد منهم للرجوع إلى مدينة اللاذقية بحثاً عن لقمة العيش، كما هي حال بارون الذي استبدل بالسوبر ماركت الضخم الذي كان يمتلكه في كسب، متجراً صغيراً في سوق الصفن في اللاذقية، وكذلك جاره كيبورك، المصوّر الكسبلي الذي اضطر إلى أن يستبدل بمهنته مهنة صيانة أجهزة الخلوي. في المقابل، تشبّثت هوفيناز جينوزيان بدكانها الصغير في كسب بعدما رممته بمبالغ استدانتها من أقاربها، ووضعت فيه كميات قليلة من المنظفات ومواد السمانة، ليكون واحداً من المحال القليلة التي ما زالت تعمل في كسب.
وفي حديث لـ«الأخبار» تقول هوفيناز التي نزحت مع زوجها وابنتها، من مدينة الرقة، حين بدأت فيها بوادر التسلّح، باتجاه حلب: «بعد تفكير في وجهة آمنة، لم نجد أمامنا سوى كسب، افتتحنا فيها دكاناً للسمانة، ومضت خمسة أشهر، نسينا خلالها أننا نعيش في الحرب، إلى أن هربنا والقذائف تتساقط حولنا». وتتابع هوفيناز التي بقيت في حلب ثمانية أشهر بعد معاناة مع غياب الماء والكهرباء: «كسب التي كانت الحركة فيها لا تهدأ باتت اليوم خامدة، كل المحال التجارية فيها مغلقة، ما عدا محلي وآخر لبيع الخضار وسوبرماركت وصالوني حلاقة».
وسط ذلك كله تبرز حكاية مختلفة، بطلتها سفيان مانجيكيان التي بسبب الهجوم على بلدتها اتخذت قراراً غيّر مصيرها، ومصير أفراد عائلتها. في حديثها لـ«الأخبار» تشرح سفيان: «أنا أرمنية، ولديّ تاريخ من القهر والتشريد والتهجير، وأنا أسمع قصص الإبادة الأرمنية وقوافل الترحيل منذ كنت طفلة، الأمر الذي جعلني لا أحتمل فكرة الجلوس مكتوفة اليدين فيما ينتهك المسلحون بلدتي، وكنت قد علمت أن جيش المقاومة السورية يجند المقاتلات في صفوفه، سيطرت الفكرة علي، ومنحتني قضيتي القوة، وفعلاً أصبحت أول مقاتلة أرمنية في صفوف المقاومة». سيفان، الأم لطفلة في الرابعة من عمرها، والتي برهنت عن شجاعة استثنائية خلال المهمات التي شاركت بها، حصلت، علاوة على احترام رفاقها المقاتلين، على لقب «أبو علي». لقبٌ يحاول من خلاله رفاقها في السلاح أن يعبروا عن تقديرهم لشجاعتها، خاصة إثر إصابتها أثناء إحدى المهمات القتالية في جبال اللاذقية. سيفان لم تعد بعد إلى بيتها في كسب، وهي تردّد: «الجبهة اليوم بيتي، وبلدتي لم تعد كسب وحدها، بلدتي هي كلّ سوريا».