حلب | في توقيت بالغ الدلالة، فتح الجيش السوري والقوى الرديفة له معركة استكمال الطوق حول الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة في مدينة حلب، ولفك الحصار المفروض على بلدتي نبّل والزهراء في الريف الشمالي للمدينة. عملية تذكّر أهميتها وضخامتها بما قام به الجيش قبل نحو 20 شهراً، عندما فرض طوقاً حول الغوطة الشرقية (ريف دمشق الشرقي، 7 نيسان 2013)، ليبعد خطر هجمات المسلحين عن العاصمة دمشق، ويحوّلهم من محاصِرين إلى محاصَرين. في حلب، بدأ الجيش أمس معركة تكرار السيناريو نفسه، في عاصمة الشمال السوري.
تكتسب المعركة أهميتها من اعتبارات عدة:
أولاً، تزامنها مع مثول المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا أمام مجلس الامن الدولي، بعد نيله مواقفة الحكومة السورية على خطته الرامية إلى تجميد القتال في مدينة حلب. كأنما الحكومة السورية تريد أن تقول إن موافقتها على خطة دي ميستورا لن تكبّل يديها في ريف حلب الشمالي الذي لا تخفي تركيا نيتها تحويله إلى منطقة عازلة بقرار غربي.

ثانياً، تزامنها مع معركة كبرى فتحها الجيش السوري في الجنوب (ريف درعا الشمالي الغربي وريف القنيطرة)، بما يزيد من حصانة دمشق، ويمنع تحوّل قوات المعارضة في الجنوب إلى تهديد استراتيجي للعاصمة. التزامن يعني أن الجيش قادر على خوض معارك كبرى على أكثر من جبهة في الوقت عينه، ويسلب المعارضة قدرة فرض توازن ميداني يُفرغ أي إنجاز يحققه الجيش من مضمونه العسكري والمعنوي.
ثالثاً، كون هذه العملية، في حال استكمالها، ستؤدي إلى قطع آخر طريق رئيسي يربط الأحياء الشرقية في مدينة حلب (الخاضعة لسيطرة المعارضة) بالأراضي التركية.
رابعاً، يساهم تطويق أحياء حلب الخاضعة لسيطرة المعارضة في إعادة هذه الأحياء إلى سلطة الدولة السورية، ولو بعد حين، مع ما يعنيه ذلك من ضربة عسكرية وسياسية ومعنوية لحاملي مشروع إسقاط الدولة السورية والساعين إلى إقامة منطقة عازلة في الشمال. وللإضاءة على هذه النقطة، يكفي التذكير بما سبق أن قاله رجل تركيا القوي، رئيس استخباراتها (المستقيل لتولّي دور أكثر أهمية في أنقرة) حقان فيدان، أمام مسؤولين عرب التقوه عام 2013. حينذاك، كان الجيش السوري يحبط هجمات المعارضة على دمشق، ويتقدّم في منطقة القصير. قال فيدان لمن التقوه (بحسب ما ذكروا لـ«الأخبار»): «كل هذا التقدم لن يفيد نظام الأسد بشيء. عندما تسقط حلب بيد المعارضة، ستسقط كامل المنطقة الوسطى في سوريا في غضون أيام قليلة».
خامساً، فك الحصار عن بلدتي نبّل والزهراء سيشكل ضربة معنوية كبرى للمعارضة السورية التي سعت مختلف قواتها (على رأسها «جبهة النصرة» و«جيش المهاجرين والأنصار») إلى احتلالها بشتى الطرق، وشنّت لذلك أكثر من هجمة شرسة خلال الأسابيع الماضية باءت بالفشل.
سادساً، اتّبع الجيش السوري سياسية جديدة إلى حدّ ما، إذ سرّب في اليوم السابق لبدء الهجوم معلومات عن حشد قواته شمالي مدينة حلب، تمهيداً لاستكمال «الطوق». ورغم ذلك، فوجئ المسلحون بالهجوم الذي بدأ فجر أمس، وأدى إلى دخول قواته ثلاث قرى (باشكوي وحردتنين ورِتيان) على الطريق إلى نبّل والزهراء المحاصرتين.
المعارك في تلك المنطقة ليست سهلة، بحسب مصادر ميدانية، فالمعارضة تحشد قواتها من مختلف قرى وبلدات الريف الحلبي، وبعض ريف إدلب، لمحاولة صدّ هجوم الجيش. لكن جزءاً من قواتها كان منشغلاً على محاور أخرى تعمّد الجيش مهاجمتها عند المدخل الشمالي الغربي لحلب.

كيف بدأت المعركة؟

قبيل الساعة الأولى من فجر أمس، بدأ مقاتلو الجيش السوري ولجان الدفاع المحلية بالتسلل من قرية سيفات متجهين شمالاً نحو بلدات حردتنين ورتيان وباشكوي في عملية التفافية الهدف منها تطويق المسلحين وقطع خطوط إمدادهم. عملية التسلل استمرت لأكثر من ثلاث ساعات تمكن فيها مئات المقاتلين من التمركز في نقاط داخل هذه البلدات وأقاموا فيها حواجز لتبدأ المعركة عند السادسة صباحاً عندما فتح الجيش السوري النار على الجماعات المسلحة في باشكوي لتبدأ القوات التي نصبت الحواجز في البلدات الثلاث عملها من الداخل لمنع المسلحين من التراجع وقطع الإمداد عنهم، محققة بذلك عنصر المباغتة الذي أربك المسلحين الذين كانوا ينتظرون تقدم الجيش من باشكوي وحسب. وبعد أقل من ساعة على بدء العملية تمكنت لجان الدفاع المحلية والجيش من السيطرة على بلدة حردتنين، في حين لاقت القوات مقاومة في باشكوي ورتيان. واستمرت المواجهات في هاتين البلدتين حتى الثانية عشرة ظهراً عندما بدأت قوة المسلحين تنهار في باشكوي. وأدى ذلك إلى سقوط الجزء الأكبر من رتيان بعد أقل من نصف ساعة من سيطرة الجيش على باشكوي كاملة. مع دخول الجيش إلى رتيان، أعلنت الجماعات المسلحة حالة النفير العام في الريف الشمالي وطلبت من المدنيين حمل السلاح لإيقاف تقدم الجيش السوري خشية وصوله إلى معرسته الخان وبيانون، ما يسمح له بفتح الطريق الى نبل والزهراء وتقسيم الريف الشمالي لحلب إلى قسمين. كذلك يتمكن بذلك من قطع طرق الإمداد من تركيا. حالة النفير مكّنت الجماعات المسلحة من شن هجوم معاكس تمكنت خلاله من إعادة فتح جبهة رتيان وتقدمت في البلدة التي شهدت أشد الاشتباكات في هذه المعركة.
اقتربنا من بلدة
الزهراء إلى حد اننا صرنا نرى رفاقنا داخل
البلدة بالعين المجردة
وقد تمكّن فصيل من 30 مقاتلاً من الجيش من التسلل من رتيان إلى نبل والزهراء. وقالت مصادر ميدانية لـ«الأخبار»: «اقتربنا من بلدة الزهراء إلى حدّ أننا صرنا نرى رفاقنا داخل البلدة بالعين المجردة، ولم يعد بيننا وبينها سوى جيوب يحاول المسلحون حشد قواتهم لتدعيمها».
بالتزامن مع خوض المعارك في الريف الشمالي، فتح الجيش السوري جبهة دوار شيحان ــ منطقة المعامل على الجهة الغربية لمدينة حلب، ليتحرك نحو الشيخ مقصود في معركة الهدف منها محاصرة المسلحين في الأحياء الشرقية.
التقدم على جبهة المعامل كان صعباً نظراً إلى طبيعة المنطقة وأبنيتها. فتحرك الجيش في الوقت ذاته بدعم من قوات «لواء القدس» (الذي يضم مقاتلين من قرى الريف الجنوبي والجنوبي الشرقي) على جبهة مزارع الملاح، وتمكن من السيطرة على عدد من المزارع الغربية، بالقرب من حريتان، مقترباً بذلك من مفرق الكاستلو، مدخل مدينة حلب من الجهة الشمالية الغربية، والمتصل بالطريق الدولي الذي يربط حلب بالأراضي التركية عبر حريتان وبيانون والزهراء وأعزاز.
فَتحُ أكثر من جبهة أفقد المسلحين التركيز على جبهة جمعية الزهراء ومنطقة الراشدين الرابعة غربي حلب، ما أتاح لقوات المخابرات الجوية المرابطة في المنطقة أن تتقدم وتسيطر على سبع كتل عمرانية في محيط مبنى المخابرات الجوية ومسجد الرسول الأعظم. كذلك تمكن الجيش من التقدم في الراشدين الرابعة في حين فشلت مساعي المسلحين في إرباك جبهات حلب المدينة عندما حاولت التسلل في جبهة بستان القصر والقلعة وحلب القديمة. وتيرة المعارك هدأت مع اقتراب ساعات الغروب، ما عدا جبهة بلدة رتيان التي بقيت حتى منتصف الليل تشهد معارك كر وفر بين الطرفين. هدوء وتيرة المعارك لا يوحي بانتهائها، في ظل تأكيد القادة العسكريين أن قرار فكّ الحصار عن نبل والزهراء محسوم، وأن فرض الطوق على حلب المدينة لا يمكن التراجع عنه ويجب الانتهاء منه قبل البدء بتطبيق خطة دي مستورا.