رام الله | لا تكتفي سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والاعتقال والتهجير ومصادرة الأراضي، فهي جعلت نصب عينيها تدمير البيئة الفلسطينية وجعلها مكبّاً للنفايات الصلبة والكيميائية وصولاً إلى توجيه الغازات السامة نحوها. هذه هي الحرب غير المعلنة التي تخوضها إسرائيل، بواسطة تهريب المخلفات والنفايات الناتجة من الصناعات العسكرية والكيميائية وبعض المواد المشعة والمواد المسرطنة إلى أراض كانت قد صادرتها ولم تبن عليها مستوطنات، أو أراض أخرى يمنع على الفلسطينيين الاستفادة منها. وهي بذلك تضرب عرض الحائط بكل الحقوق والمواثيق، بما فيها ميثاق «بازل» الذي يحظر على الدول الأعضاء نقل أي مواد خطرة إلى أراضي دولة أخرى، تحت ذريعة أن المناطق الفلسطينية لم يعترف بها كدولة بعد!
وما يزيد الأمور صعوبة أن هناك بعض المواطنين ممن يجهلون مدى خطورة هذه الخطوة يقبلون ما يدفعه الإسرائيليون إليهم من أموال ليدفنوا بعض المواد السامة في أراضيهم، في ظل غياب الرقابة الرسمية من السلطة الفلسطينية.
أما في طولكرم، فلا تزال المعاناة مستمرة من المصانع الإسرائيلية التي تلوّث هواءها (راجع العدد ٢٤٠٥ في ٢٧ أيلول ٢٠١4). ففايز الطنيب، هو واحد من مئات، بل ربما آلاف، السكان الذين يفقدون يوماً بعد يوم مصادر رزقهم، إذ إنه يعتاش وعائلته من مزرعة تقع في الجهة الغربية من مدينة طولكرم، وهي متاخمة لخط إطلاق النار المسمى حالياً بالخط الأخضر. يقول الطنيب ممتعضاً: «هذه المزرعة بالنسبة إلي هي كل شيء، فمنذ بداية إنشائها في الثمانينيات والصراع مستمر بيني وبين جنود الاحتلال. هذا المصنع في عام 1984 كان في قرية إسرائيلية بالقرب من نتانيا اسمها تلموند، وبعد فترة من تزايد أضرار المصنع قرر السكان تقديم شكوى إلى المحكمة لإغلاق المصنع بسبب الإضرار بمزارعهم، ومباشرةً تم إغلاق المصنع ونقل مقرّه إلى هذه المنطقة».
مصنع إسرائيلي يعمل إذا كانت الريح غربية لتصل الغازات إلى طولكرم وحدها

كذلك تضيف زوجته منى «أعمل في هذه المزرعة منذ 30 عاماً، ومنذ اليوم الأول والنبتة الأولى، ينفث هذا المصنع السموم في طولكرم عموماً ومزرعتنا خصوصاً». وتتمنى منى أن تلتفت مؤسسات حقوق الانسان إلى حالهم، لأن «مصانع السموم» تقتل النباتات والبشر في كل مكان في الضفة المحتلة، كما ان هذا المصنع موجود في وسط مدينة مكتظة.
من جهة أخرى، يعبّر عضو لجنة حقوق الإنسان في جمعية لجان العمل التطوعي في طولكرم، شريف شحرور، عن استيائه من هذا الوضع. فرغم كل المناشدات والدعوات للجهات المسؤولة مرفقاً إياها ببيانات وحقائق ودراسات أجريت أخيراً، لم يلقَ أي ردّ فعل حقيقي على أرض الواقع. يقول: «هذه عملية قتل للإنسان الفلسطيني، وهناك العديد من الدراسات، بما فيها دراسات إسرائيلية، تثبت خطورة هذه المصانع وملوثاتها... ولعل أكبر دليل إدانة هو قيام إسرائيليين بمشاركة أعضاء الكنيست والبرلمان بمظاهرات لإغلاق هذه المصانع أو نقلها» من الأراضي المحتلة.
والأخطر أنه بعد نقل تلك المصانع إلى مناطق بعيدة عن الإسرائيليين، فإن أحد تلك المصانع يعمل في حال كانت الريح غربية، كي تصل كل الغازات والفضلات الهوائية السامة التي تنطلق من المصنع إلى أهالي طولكرم، أما في حال كانت الرياح شرقية فلا يعمل المصنع كي لا تصل الغازات السامة إلى المناطق الاسرائيلية ويتضرر سكانها!
ولعلّ فلّة جلاد، المتخرّجة حديثاً التي تعيل عائلتها منذ وفاة والدها عام 2011، أوضح مثال على تداعيات عمل تلك المصانع، إذ توضح أن سبب وفاة والدها كان مرض السرطان الناجم عن تأثير المصنع الكيماوي القريب جداً من الحي الذي تقطنه عائلتها. وتقول الجلاد: «بسبب هذه المصانع خسرت أقرب الناس إلى قلبي، والدي الذي أصيب بداية بسرطان في الغدد اللمفاوية وبدأ العلاج الكيماوي آنذاك، ولكن بعد عدة سنوات أصيب بسرطان في الرئتين. كان الأطباء يسألونه من أين أنت؟ وبمجرد أن يجيب بأنه من طولكرم يعرف الأطباء فوراً أنه يسكن بالقرب من مصانع جيشوري!».
وقد فرض القانون الدولي على سلطات الاحتلال صيانة ممتلكات الدولة الواقعة تحت الاحتلال وإدارتها وفقاً «لقواعد الانتفاع». هذا ما يؤكده الخبير في القانون الدولي، حنا عيسى، الذي شرح في بيان نشره أخيراً، أن نص المادة 55 من لائحة لاهاي لعام 1907 تؤكد أن «دولة الاحتلال لا تعتبر نفسها سوى مسؤول إداري ومنتفع من المؤسسات والمباني العمومية والغابات والأراضي الزراعية التي تملكها الدولة المعادية، أي التي توجد في البلد الواقع تحت الاحتلال».
كذلك، نصت اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 (المادة 33) على أن «السلب محظور». ثم شدد بروتوكول جنيف الأول لسنة 1977 المكمل لاتفاقيات جنيف الأربع في مادته 54، على أنه «يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى لبقاء السكان المدنيين... مهما كانت البواعث، سواء كان بعضها تجويع المدنيين لحملهم على النزوح، أو أي باعث آخر».