لم يحالفنا الحظ ونحن صغار ببيت واسع مع ساحةٍ كبيرة، لم نحظَ بسور طويل حول المنزل، وبأشجار صفصاف طويلة وباسقة تسكنها العصافير، لم تكن لدينا اية ألعاب كهربائية، ولا ألعاب "بلاي ستيشن ودي في دي"، ولم يكن لنا بالتأكيد تلفزيون خاص لكل بيت، فقد اعتادت كل حارة في المخيم على تلفزيون الجيران، تُلم الأفراد كل مساء لمتابعة مسلسل سخيف، يُحضِر كل جار بعضاً من الترمس والشاي والبطاطا الحلوة أيام الشتاء، وأثناء عرض المسلسل تسمع الهمسات بين الجارات اللواتي فاتتهن مشاهد واحداث ولا يفهمن شيئاً من الحلقة، ليفتحن بعدها نقاشاً ساخناً ينتقد مجريات الحدث.
أما نحن الصغار فقد كانت للألعاب الشعبية مساحة كبيرة تتيح لنا، لا بل تدفعنا إلى الاحتكاك وكسر صمت الكهرباء، خاصة بعد انقطاعها بعد العاشرة مساءً في حارات المخيم. كان بإمكاننا اقتحام البيوت المهجورة للعبة "الخريطة" او"الغميضة"، وأحياناً لهدف نبيل هو الاختباء من غضب الوالد.
لم يكن الصمت والهدوء يخيمان على أبواب البيوت ونوافذها، ولم يكن هناك من موطئ قدم حتى لكي تقتحم الأشباح الأماكن. فحيوية اهل المخيم وسكانه كان من شأنها ان تولد الحياة في كل لحظة، حتى حين نكون نائمين كالمرضى في غرفنا الجماعية، تقترب منّا خطوات الجنود (جيش الاحتلال) الذين تستطيع عدَّهم من صوت خطواتهم، فكأنهم يمشون فوق رأسك.
في الصباح وبعد ليلةٍ غير عادية، تصحو على صوت "البّابّور"، رأسه كالأرجيلة، ممتلئ بالكاز، تدكه بقضيب حديدي لتدفع الكاز للصعود لرأس البّابّور. كان صوته حين يوقد يهدر هديراً اين منه صوت جرافات اليوم، تفرك عينيك وتخرج من تحت البطانية التي تغطي معك ثلاثاً أو أربع فتية من إخوتك، نحمل أنفسنا ونمشي باتجاه "بيت الخلاء" الذي يشكل مشغلاً وورشة للنظافة البشرية، وفي الوقت ذاته مكباً للنفايات.
تلحق بنا الوالدة، بإبريق بلاستيكي سُخّن ماؤه على البّابّور ليدفئ اطفالها، تسكب الماء في "طشت" بلاستيكي، مستخدمةً طاسة مرتجلة من علبة معدنية أو بلاستيكية أو حتى غلاية القهوة، لتسكب الماء علينا بعد تبريدها من برميل لتجميع الماء من "حنفيات الوكالة". وهي حنفيات تُفتح يومين في الأسبوع للسكان البالغ عددهم ٨ آلاف نسمة، فقط لا غير!
كانت النسوة تحجزن ادوارهن لنقل برميل أو اثنين من الماء الى المنازل، آنذاك كانت "الخِلفة" بمعنى العدد، ضرورية. فأن يكون لك ست بنات وأربعة أخوة من اجل حجز دور الماء، وحجز "مطعم الوكالة " لتحصل على حصتك وان كان ممكناً أكثر قليلاً لتأمين نفسك طوال الأسبوع.
على ضجيج العابرين من خلف جدران غرفنا كنا نصحو باكراً. فلا أسوار، ولا فضاءات كبيرة بينك وبين الشارع لتمنع صوت الأقدام عنك. تبحث عن إبريق الماء وخليطه بين الساخن والبارد لغسل وجهك قبل الانطلاق للمدرسة، شعرك محلوق والماء الساخن لا يكفي لأكثر من غسيل الوجه والأذنين.
تبحث عن كتبك بين كتب إخوتك لتضعها في الحقيبة. فاليوم دورك في حملها! فهذه الحقيبة "الثمينة" موزعة علينا مداورة بين الإخوة، وهنا يصبح حلمك أن لا يكون لك أخوة.
بين الغرفة والمرحاض بابٌ ضيق، يحتك جسدك بالزوايا حين تريد العبور وقد تخبط بأخ لك خارجاً من الغرفة. تتورم مواضع الضربات في جسدك الطري من أثر الاحتكاك كل يوم ويزرق بعضها.. في الطريق من المدرسة إلى البيت، تضطر إلى أن تسرق حبة مشمش من حديقة الجيران، أو حبتين من اللوز، ليس لسد جوعك بقدر ما هو انتقام من الزمن الذي تجاهلك وجعلك تولد في عائلة مكونة من خمسة عشر فرداً، يسكنون جميعاً وبكل حاجاتهم، في مساحة لا تزيد عن ثمانين متراً. يشكوك الجار البخيل للأب الذي يؤنبك بدوره، لتعود وتنتقم من الجار في المرة الأخرى "بفرط" جميع ثمراته تحت الشجرة.
مخيمٌ مكتظ. أكثر من عشرة آلاف بشري في مساحة لا تزيد عن 500 متر مربع. يضايقك انك تكشف جيرانك طوال الوقت، وتعلم أسرار البيوت من دون سعي منك. فصوت "الزوج" يشاركك الصمت الذي تبحث عنه من سنين، وشجار الجيران من الجهة الشرقية، يقتل هدوءك أيضاً، وكلما فتحت كتابك سمعت همس جارك من الجهة الغربية، فأنت محاصر بالأسرار المعلنة لضيق المساحة وبالأصوات.
يتقدم الزمن، وما زال هناك بعض الأسرار "المخيمية"، التركيبة السحرية لتفهم المنظومة الاجتماعية للمخيم، والحارات، والبيوت الكريمة، لا يمكنك العبور من المخيم من دون الحصول على وجبة غذاء، او "كاسة شاي" من الأباريق التي تزين كل أبواب البيوت، على الطاولات التي يتحلق الجيران حولها. ما إن تمر، حتى يتناهى الى سمعك صوت رب العائلة الجالسة على باب البيت يقول لك: "تفضل"، وإن تأخرت، ستجد أيضاً مكاناً للنوم في بيتٍ ما. ستكون ربما المرة الأولى التي تتعرف اليهم فيها، وبالطبع لست مطالباً "برد الجميل".