غزة | أخيراً، وبعد شهرين، تنفّست الطفلة الفلسطينية ملاك الخطيب عبق الحرية، لكنها تركت خلفها 220 طفلاً يقبعون في السجون الإسرائيلية. فتحت أصغر أسيرة فلسطينية عينيها، يوم أمس، على فضاء متحرّر من السلاسل التي قيّدت يديها وقدميها على مدار 45 يوماً في سجن «هشارون»، خارجة بمشية صلبة وابتسامة طفوليّة لتلاقي أهلها على حاجز «جبارة»، جنوب طولكرم (شمال الضفة المحتلة).
الخطيب (14 عاماً)، التي اعتمرت الكوفية الفلسطينية لحظة استقبالها على الحاجز، حظيت قضيتها بجلبة كبيرة في الأوساط الشعبية والإعلامية، كما أعادت تظهير قضية اعتقال الأطفال القاصرين إلى الواجهة بعدما ابتعد الضوء عنها. لم تكن قصة ملاك ذات صبغة استثنائية، لكن وقعها على الإعلام جاء أشدّ صخباً من غيرها. وتعود قصتها إلى ذلك اليوم الذي كان فيه العالم يقيم احتفالاته بنهاية سنة 2014، فيما الاحتلال يؤدي دوره «العنتري» مع ملاك. فبعدما عصب عينيها ومزّق ملابسها وحقيبتها المدرسية، اقتادها إلى السجن، حينما كانت في طريق عودتها إلى بيتها في قرية بيتين (قضاء رام الله).
بقي نحو 220 طفلا في السجون من بين 3755 قاصرا اعتقلوا في 4 أعوام مضت

لم تكتفِ محكمة «عوفر» العسكرية بتوجيه تهمة وحيدة للطفلة، بل وجّهت إليها ثلاث تهم رزمة واحدة، هي: إلقاء الحجارة وحيازة سكين وإغلاقها شارعاً التفافياً! تهم تبدو «كاريكاتورية» جدا، إذا ما قيست بعمر ملاك الصغير، كما كان الحكم بحقّها أكثر هزلاً من التهم، إذ قضت الاستخبارات الإسرائيلية، التي تتخفّى بعباءة المحكمة، بالسجن الفعلي شهرين، فضلاً عن غرامة مالية 6000 شيقل (1550 دولاراً)، فضلا عن أن هذا الحكم التعسّفي جاء بعد أربع محاكمات عسكرية تعرّضت لها الطفلة في ظل غياب والديها ومحاميها، كما حُرمت اقتناء ملابسها الخاصة وكتبها الدراسية.
صحيح أن الخطيب غادرت الظلام الذي يخيّم على سجن «هشارون» المخصّص للأسيرات، بعدما نجحت في تحريك المياه الراكدة بشأن قضايا الأطفال المنسيين في السجون، لكن المتخصص في شؤون الأسرى، عبد الناصر فروانة، يبدي مخاوفه من إغلاق ملف المعتقلين الأطفال، إعلاميا، بعدما انتهت قضية الخطيب، التي كانت إحدى ضحايا «مجزرة الغرامات المالية».
يقول فروانة لـ«الأخبار»: «علينا التعامل بمنهجيّة مع هذا الملف، الذي يندرج في سياق سياسة إسرائيلية تستهدف الطفولة الفلسطينية، بعيداً عن ردود الفعل العفوية والموسمية، لأن ملاك لم تكن الطفلة الأولى التي زُجّ بها في سجون الاحتلال... وقد لا تكون الأخيرة».
في هذه الأيام، يقاسي نحو 220 طفلاً عذابات السجن، وهم موزعون على كلّ من «عوفر» و«مجدو» و«النقب» و«هشارون» و«عتصيون» ومراكز توقيف أخرى، فيما لدى «عوفر» العدد الأكبر من الأطفال الأسرى، حيث يقبع في ظلمته 99 طفلاً يحرمون مرحلة التعليم الأساسي. وقد صعّد الاحتلال في الأعوام الأربعة الأخيرة حملات اعتقاله بحق الأطفال، إذ بلغ عدد المعتقلين القصّر قرابة 3755، فيما شهد العام المنصرم تصاعداً غير مسبوق، إذ اعتقل في أشهره الاثني عشر 1266 طفلاً، أي بمعدل يزيد بـ930 طفلاً عن كلّ عام.
وكان لمدينة القدس المحتلة نصيب خاص، إذ إنه ضمن سياسة تهويد القدس وتفريغها من أهلها، يتعمّد الاحتلال تثبيط معنويات المقدسيين باعتقال أبنائهم، الذين مثّلوا 55% من إجمالي المعتقلين العام الماضي، كما يجبرهم على أداء دور السّجان بتطبيق سياسة الحبس المنزلي (راجع العدد ٢٣٨٧ في ٦ أيلول ٢٠١٤) على أبنائهم، أو إبعادهم إلى مناطق محدّدة تقرّها المحكمة.
ويظهر وفق التقارير أن الاحتلال لا يقيم أدنى وزن للفارق الفيزيولوجي والسوسيولوجي بين القصّر والبالغين القابعين خلف قضبانه، فهو يمارس بحقّهم سياسة الإهمال الطبي والتفتيشات الليلية، كما يجبرهم على الوقوف ساعات طويلة في البرد القارس، فضلا عن تعرّضهم للشبح والصعقات الكهربائية والضرب المبرح بأدوات مختلفة. ولا يشفع لهم صغر سنهم ومحدودية وعيهم عند الاحتلال، إذ يهدّدهم بالقتل والتحرّش الجنسي ويطفئ أعقاب السجائر في جلودهم، إضافة إلى أن سجانيه يعصبون عيون أولئك الأطفال ويركلونهم بأقدامهم على مدار الساعة (راجع العدد ٢٤٤٩ في ٢٠ تشرين الثاني ٢٠١٤).
يضيف فروانة: «يحتجز الاحتلال الأطفال في سجون الكبار نفسها، كما يُعرضون على المحاكم العسكرية بعيداً عن محاكم الأحداث، ويحرمون النوم والطعام والأسوأ أنهم يحتجزون في المستوطنات وغرف التحقيق للضغط عليهم للإدلاء بشهاداتٍ تدينهم».
تلك الحرب الصامتة على الأطفال تطاول وجوهاً أخرى أكثر وحشية، كوخز الإبر في الرقبة والرأس خلال استجوابهم، ورش عيونهم بالغازات، وجرّهم طويلاً على الأرض ورفسهم، إضافةً إلى شتمهم بألفاظ نابية، واستخدامهم دروعاً بشرية خلال الاعتقالات وصولا إلى إجبارهم على التعري لتصويرهم وابتزازهم.
أمّا «البوسطة» (عربة حديدية مخصّصة لنقل الأسرى من المحاكم وإليها أو ما بين السجون)، فتظل من أكثر المحطات قسوةً بحق القصّر، إذ يقضي فيها الأطفال أكثر من 20 ساعة وهم مكبلو الأيدي والأقدام.
ووفق «نادي الأسير» الفلسطيني، فإن قوات «النحشون» القمعية اعتدت أخيراً بالضرب على جهاد صوفي (17 عاماً) من قطاع غزّة والمحكوم بالسجن لعامين، خلال نقله عبر «البوسطة» لحضور جلسة محاكمته، كما اعتدت بالضرب الشديد على مالك حمدان (17 عاماً) من القدس، ونقلته إلى عيادة سجن الرملة من دون أن تقدّم إليه العلاج اللازم.
ويبقى مصير الأطفال المعتقلين متأرجحاً بين إيقافهم في السجون وإدانتهم بتهم مختلفة، تراوح بين إلقاء الحجارة والمولوتوف وحيازة سكاكين، من دون أن يشهد العالم تحركاً يوازي حجم الإجرام الإسرائيلي بحقّهم، وخصوصاً أن ثمّة أشخاصاً شاخوا في السجون بعدما اعتقلوا أطفالاً في عقود ماضية.