مراد السيدلسَنَواتٍ، وأنا أدَّخرُ مصروفي من العملِ في سوقِ الخضروات وفي زراعةِ البندورة والخيار وسقاية أشجارِ اللوز والتين وتربية الدواجن كي أشتري كتب السياسة، الفلسفة، الروايات، القصص، الأشعار، والمسرحيات.
كَثيراً ما كانت أُسرَتي تلومني، فأُخبِئُها في العلّيةِ، أو بين كُتبي المدرسية خوفاً عليها من أن تُكتَشف وتُحرق في كل مرةٍ يقَعُ فيها أحد هذه الكتب تحت يدي أمي، خوفاً عليَّ من أن أنتهي عند بيتِ خالتي التي ليست على وِفاَقٍ مع أمي ومع الكثير الكثير من الأمهات.
عندما كبرتُ كانت هذه الكتب هي ثَروتي الحقيقية، وكانت تُمَثلُ لي الكثيرَ، وكُنت أتباهى بها أمامَ أصدقائي، وأُفكِرُ للمَرّةِ الألف قبل أن أقومَ بإعارتها لأنه (أحمق من يعير كتاباً والأكثر حماقة من يعيده)
اليوم أحدقُ فيها بخبثٍ ومكرٍ شديدين وأنا أدركُ تماماً ما الذي تُسَاويه الآنَ وما تعنيه لي أكثرَ من أي وقتٍ مضى. أنقل نَظَري بَينَها وبَينَ المِدفأةِ البَارِدة التي تُوسوسُ في نفسي وفي روحي وتَقودُني إلى ارتِكابِ ما لم أَكن أظنُّ يوماً أنَّني سَأفعَلُه.

لكنَّ البَردَ القارس شَيطانٌ خناسٌ، يَهمِسَ في عظامِي ويقول: كِتابٌ واحدٌ فقط! اختر أي كتاب ولتُوقد الدفءَ في جَسَدِك. ما نَفعُ الوَرَقِ إن لَم يَمنَحكَ الدفء ويُذهب عنك هذا الصّريرَ في دمك، وكالمَأخوذ وكعاشقٍ مُتَيَّمٍ أقعُ في فخِ الشَهوة.
أمدّ يدي لأداعِبَ خصرَ ألمَاسة في "طُقوسِ الإشارات والتحولات" وسوياً نَرتَكِبُ العِشقَ الحَرام. أوقدُ في جَسَدِها النّار التي طالما حَلمت بِها وأقذفها في فُتحَةِ المِدفأة. أراها تَخرُجُ من سِجنِ مُجتَمَعها من خَوفِها من تاريخ أُسرّتِها المليء بالمَكائدِ والخيانات.
فجأة يتسللُ رويداً رويداً دفء جَسَدِها إلى جسدي كأنَّنا نُمَارِسُ الحُب والجُنُون! تُشعلُ النارَ فيَّ الرغبات، فَيخرُج متعب الهذَّال من "مُدن المِلح" مُسرِعاً على صَهوةِ جَوادِه، و يَقفزُ نحو النار... أسحبُ أوركاديو بويندا من "مئة عام من العزلة" وأرميه مع ابن خلدون في حجرة واحدة. يشتَعِلُ الاجتِماع مع التاريخ مع الفلسفة مع المسرح. أشعر بأن الشعر غائب، فيحضرُ درويش من غيابه. يَخرجُ مسخُ كافكا من سريره ويَتجه بتثاقلٍ نحو الجميع. يبدأ زوربا بالرقص مع خادمات جان جينيه ولا ينتظر غودو كثيراً. مزيد من الجنون... مزيد من الدفء.
رويداً رويداً أفقدُ السيطَرة. يَسلبُني الدِفءُ عَقلي ويخرُجُ الجُنون مِن قُمقُمِه. كأنَّ الجَميع كان يبحثُ عن هذِهِ النيران. لكنني لم أَكن لأعرِفَ إن كنتُ أخلقُ جنّتي أو جَحيمي.
لكن ليس مُهماً الآن: أِنَّه مهرجانُ اللَّهب، والجميع بحاجة إليه: شَيخُ همنغواي المُتعب من سحبِ هيكلِ سَمَكته، جان فالجان، معطف غوغول الممزق، أشعار الماغوط، نمور زكريا تامر، طيور الشوك. دوستوفسكي... كامو... أسخيلوس... بيكيت... ماركس... ياسين الحافظ... روس... هوميروس... دانتي... محفوظ... ناجي العلي... غسان كنفاني.
لكن في غُمرَةِ هذا الجنون ومُتعة هذا الدفء، لم أنتبه إلا وأنا مُلقى على الرماد، والحرائقُ تَملأ قلبي وروحي.