أظهرت الحالة الأردنية الرسمية والشعبية في رد الفعل على جريمة قتل الأسير الطيار، معاذ الكساسبة، تكاتفاً كبيراً خلال اليومين الماضيين، لكنها لا تكفي للإجابة عن تساؤلات كان يجب على الشارع الأردني مراجعة قيادته فيها قبل أن يحدث ما حدث. فلو مضت مشاركة عمّان في التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» دونما سقوط/إسقاط، طائرة الكساسبة، لما وجد الأردنيون أنفسهم أمام اختبار صعب، استعدت فيه حكومتهم لصفقة تبادل... «حرقها» تنظيم الدولة.
فلماذا كان الاصطفاف ضد سوريا وخيار دعم القتال والمسلحين فيها؟ ولمَ غُض النظر عن الحدود وإدخال المسلحين وتدريبهم في الأراضي الأردنية؟ أيضاً، من استضاف مؤتمر المعارضة العراقية في لحظة كان فيها «داعش» على أبواب بغداد؟ يبدو أن كل هذه الأسئلة أضاعها هول الطريقة التي أُعدم بها الطيار معاذ الكساسبة. وهي ليست وليدة الأزمة الأخيرة، بل كان يجب الانتباه إلى الإجابات في بداية الأزمة السورية، وتحديداً منذ صار الأردن الممر الثاني، بعد تركيا، للمسلحين وعتادهم إلى الشام، وفي النتيجة، تشكّل «حزام خطر» جنوبي على دمشق مصدره المملكة. صحيح أن القوات الأردنية كانت تقصف أي قافلة مسلحة متجهة من سوريا إلى أراضيها، لكنها كانت تهمل العكس.
التضامن مع الكساسبة
لا يلغي «فورة» التأييد لـ«داعش» في المملكة

لا بد من جردة حساب، فلا يمكن أن يكون الأردن جزءاً من حرب كبيرة في المنطقة ويبقى في واحة أمان دائمة. الملك عبد الله الذي قطع زيارته للولايات المتحدة ليعود محمّلاً بمسؤولية كبيرة عن القادم، توعّد برد قاس، فقال إن «الأردن وجيشه العربي المصطفوي سيردّ على ما تعرض له ابنه الغالي من عمل إجرامي وجبان، لأن هذا التنظيم الإرهابي لا يحاربنا فقط، بل يحارب الإسلام الحنيف».
حدود هذا الرد غير واضحة بعد لسببين: الأول، أن الكساسبة فُقد أصلاً في إحدى الطلعات الجوية التي أثبتت التجربة أنها بلا جدوى، ما يلغي فكرة أن زيادة القصف هي الرد. السبب الثاني، أن عمّان ليست صاحبة قرار في ما يجري حولها، فهي وإن فتحت قواعدها العسكرية للطيران الأجنبي وشاركت معه في حملات القصف الجوي، لا تملك خيار المواجهة بالمعنى المباشر (البرية أو غيرها) ضد «داعش»، سواء في العراق أو سوريا. ومع أن دمشق قدمت في بيان استنكارها الجريمة دعوة للحكومة الأردنية إلى «التعاون في مكافحة الإرهاب المتمثل في تنظيم داعش وجبهة النصرة»، فاستجابة المملكة لهذه الدعوة لا تبدو واردة، في ظل استمرار الموقف من النظام السوري على ما هو عليه. حتى القرار السريع بتنفيذ حكم الإعدام الصادر قبل سنوات على العراقيين، ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي، بعد ساعات من نشر فيديو حرق الكساسبة، ليس تعبيراً عن حالة قوة، بل عن محاولة لامتصاص بعض الغضب الشعبي، وأيضاً العشائري. هو غضب لم يكن مسلطاً على الدولة، على الأقل حتى الآن، لأن سؤال «ما الذي أوصلنا إلى ذلك»، لم يحضر في أذهان الأردنيين بعد، وقد لا يجرؤ كثر على توجيه اللوم إلى أصل المشاركة في الحرب ضد «داعش».
في المقابل، لم تجرؤ التيارات الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، على السباحة عكس التيار حالياً. فبعد تسجيلها انتقادات كبيرة على المشاركة الأردنية في الحرب ضد «داعش»، مضت كلها في بيانات استنكار لما جرى. بل سارعت جماعة "الإخوان" وذراعها السياسي (حزب جبهة العمل الإسلامي) إلى الذهاب إلى بيت عزاء الكساسبة في محافظة الكرك، وفي المقدمة كان المراقب العام للجماعة، همام سعيد.
موقف "الإخوان" قد يفسر على أنه «ناتج ضعف»، فالجماعة لا تزال في مواجهة مع النظام الذي يستمر في اعتقال نائب المراقب العام لها، زكي بني ارشيد، رغم تأجيل محاكمته أكثر من مرة. ولعله كان لافتاً أيضاً موقف بني ارشيد قبل حادثة حرق الكساسبة، إذ استبعد «عودة إخوان مصر إلى المشهد السياسي»، معتبراً في حوار لموقع قناة «العرب» من سجنه، أن «الوصف الدقيق لما حدث هو فشلهم (إخوان مصر) في إدارة الأزمة، وليس تراجع شعبيتهم». وفيما رأى الرجل أن «القادم أسوأ بالنسبة إلى إخوان مصر»، انتقد طريقة إدارة الحكومة الأردنية لقضية أسر الطيار، مضيفاً (قبل إعدامه): «أخشى أن الكساسبة لم يعد على قيد الحياة»، كذلك رأى أن «الدولة الإسلامية تحاول إضعاف الجبهة الداخلية الأردنية».
رغم جملة المواقف المستنكرة، تعلم دوائر صنع القرار أن ما لدى الإسلاميين هو نفسه لم يتغير، وأن خزّان «الداعشيين» الذي كان يصدر إلى العراق وسوريا من المملكة، يزيد المخاوف من انفجاره قريباً مع حالة من التأييد للحالة السلفية التي يمثل «داعش» نموذجها. وليس ذلك اليوم الذي رفعت فيه أعلام التنظيم في المحافظات الجنوبية (معان) ببعيد. هنا يعود السؤال عن الحالة العشائرية في المملكة وكيفية تأثيرها في المشهد المقبل، وخاصة أن مضي الأيام وانطفاء جمرة الغضب سيتيحان المجال لتحركات قد تعارض استمرار عمّان في الحرب ضد «داعش»، على اعتبار أن ما جرى يكفي لأن «يَعتبر» الأردن.
أما الخوف الأكبر، فيبقى من «فتيل» القنبلة التي رماها «داعش» بعد مشاهد قتل الطيار الأردني، إذ نشر نحو 90 اسماً وعنواناً لعدد من طياري القوات المسلحة في المملكة، معتبراً أنهم مطلوبون للقتل. وبغض النظر عن الطريقة التي حصل فيها تنظيم «الدولة» على هذه البيانات، تبقى الخطورة من نتائج «دعوة ضمنية» إلى إشعال الساحة الداخلية عبر استهداف عدد من الذين عرضت أسماؤهم وصورهم عبر «خلايا نائمة»، وهو ما استدعى تشكيل حماية لهؤلاء الطيارين، وفق إفادة مصادر أمنية.
وبانتظار نتائج عملية للاجتماع الذي عقده الملك يوم أمس مع القيادة العامة للقوات المسلحة، فإن لعمّان عينين الآن: الأولى على الداخل، والأخرى على الحدود. إذ سيقاس ردّ الفعل الحقيقي بمدى الاستجابة لدعوة دمشق، والمبادرة، بصورة مشتركة أو فردية، إلى ضبط الحدود مع سوريا أولاً، مع ما لذلك من تداعيات على موازين القوى في الجنوب السوري، والعراق ثانياً، قبل الحديث عن أي «مغامرات» عسكرية في ساحات حروب مفتوحة لم يختبر فيها الجيش الأردني بعد، فيما يمكن القول إن ساحة الاختبار الأخرى هي الداخل، فهل ستشهد المملكة تفكيكاً للخلايا الأمنية خارج إطار الاعتقالات السياسية وسجن الرأي؟
إلى ذلك، وقّع الأردن على هامش زيارة عبدالله لواشنطن مذكرة تفاهم تقدم بموجبها الولايات المتحدة، ضمن برنامج الدعم السنوي للمملكة، مساعدات بمقدار ثلاثة مليارات دولار في الأعوام الثلاثة المقبلة، وتشمل الجوانب العسكرية والاقتصادية والتنموية.