فريق «الكرامة» في الشرق الليبي يبدو مرتاحاً أكثر من الأشهر السابقة. استطاع إلى حدٍّ ما تثبيت مواقعه في مناطق انتشاره. «الهلال النفطي» وثروته الهائلة بين سرت وبنغازي تحت قبضته، بعد أن حسم المعركة مع «فجر ليبيا» لمصلحته. بنغازي كلها تحت سيطرته باستثناء شارعين بيد مجلس أنصار شورى بنغازي الذين هم عملياً «أنصار الشريعة». وعاجلاً أو آجلاً سيسقطان في ظل الحصار المفروض عليهما من قبل الجيش الليبي. يعرف فريق «الكرامة» ماذا يريد.
يرى أن معركته مع المتشددين من «القاعدة» و«داعش» ومشتقاتهما على كامل البلاد. ولا مشكلة في الحوار مع أي طرف ليبي لحل الأزمة السياسية والأمنية في البلاد ما دام غير مرتبط بأصحاب فتوى نحر رقاب العباد.
ذهب «الكرامة» إلى جنيف للحوار، متحصناً بشرعيته الدولية، لديه حكومة معترف بها دولياً، وبرلمان لا غبار على شرعيته، لأنه منتخب من قبل الشعب. فريق يبدو نسبياً منسجماً مع نفسه، اللواء خليفة حفتر هو فعلياً قائد هذا الفريق.
على عكس «الكرامة»، ظهر الإرباك والتفكك على فريق «فجر ليبيا» منذ دعوته للحوار في جنيف. تذرع بداية بوجوب التشاور بين أعضاء المؤتمر الوطني «غير الشرعي». قصد الحلفاء في تركيا لمعرفة ما يفعلون، فكانت «التخريجة» لعدم الذهاب بوجوب التحاور على الأرض الليبية.
ظهر الإرباك والتفكك على فريق «فجر ليبيا» منذ دعوته إلى الحوار

لم تكترث الأمم المتحدة، راعية الحوار، كثيراً لقرار «الفجر» بعدم الذهاب إلى جنيف. قطار الحوار يجب أن ينطلق بمن حضر والأبواب مفتوحة لمن يريد الحضور لاحقاً. الاختراق النوعي كان بحضور ممثلين عن مدينة مصراتة، القوة الضاربة في «فجر ليبيا». نائبان وممثلان عن المجلس المحلي يقررون الذهاب إلى جنيف. مشهد يزيد ارتباك «فجر ليبيا»، فمصراتة ليست أي فصيل أو ميليشيا في فريقها، هي تقريباً المكون الأساسي له. قائد عملية «فجر ليبيا» صلاح بادي من مصراتة، الدعم المالي الأساسي يأتي من مصراتة. درعها العسكرية هي التي أنهت معركة المطار مع الزنتان في طرابلس. قواتها هي المسؤولة عملياً وفعلياً عن المنطقة الليبية الوسطى عسكرياً.
اختيار مصراتة للحوار شكل الصدمة في فريق «فجر ليبيا»، تحديداً جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الليبية المقاتلة وبعض القوى المهيمنة على الحكومة والمؤتمر في الغرب الليبي. لكنه كان الخيار الأنسب لأعيان المدينة وفعالياتها وتجارها. وجدوا أن مدينتهم ستدمر بطائرات حفتر، مصانع التجار باتت تحت رحمة المقاتلات، ميناؤها أغلق بعد تعرضه للقصف، مطارها توقف عن الملاحة، مصنع الحديد والصلب الأكبر على مستوى القارة الأفريقية تراجع إنتاجه إلى أقل من النصف، وهو في انحدار مستمر. المدينة قد تختنق إن استمرت في اتجاه الحرب. مصادر خاصة تؤكد أن بعض أعيان مصراتة اتصلوا بعلي التريكي المسؤول السابق في وزارة الخارجية زمن القذافي والموجود في مصر للتوسط لدى القيادة المصرية لوقف التدهور مع الجيش الليبي. وفعلاً قام هذا الرجل المخضرم في العمل الديبلوماسي بالتواصل بين القاهرة وبنغازي وسحب فتيل البارود.
وجدت مصراتة بعد كل ذلك فرصة في الحوار للخروج من «عقم» الأزمة بين الشرق والغرب. وربما أدت الدور الأنسب في تقريب المسافات بين الشرق والغرب. فمعروف تاريخياً الخلاف بين شطري ليبيا.
في جنيف يعقد الحوار مرتين على أكثر من جلسة، الحوار الأول جرى بين السياسيين واتُّفق على وقف القتال وفتح ممرات إنسانية ووجوب إيجاد حل للأزمة السياسية. أجواء إيجابية في هذا الحوار انعكست على الجلسة الثانية التي كانت مخصصة للأعيان والمجالس البلدية. فكان أهم ما انبثق منها هو الاتفاق على المصالحة بين مصراتة وتاورغاء بعد محاكمة مرتكبي الجرائم في زمن الثورة. في هذه المصالحة تظهر فعلاً نية مصراتة في الاتجاه نحو الحلول السلمية. ولمن لا يعرف السبب، فإن ما بين مصراتة وتاورغاء كل السواد في العلاقة. خلال المواجهة بين الثوار والقذافي كانت تاورغاء، تلك المدينة الملاصقة لمصراتة وأصول أهلها من أفريقيا من أصحاب البشرة السمراء إلى جانب «العقيد»، وعدهم القذافي يومها بـ«تملّك» مصراتة إن انتصروا عليها. وحقيقة ارتكب بعض من رجالها أفظع وأشنع الجرائم بحق أهالي مصراتة، لا بل هناك الكثير من حالات الاغتصاب ارتكبت بحق نساء من مصراتة، فكان ردّ مصراتة بتهجير أهل هذه المدينة بين بنغازي وطرابلس. وهم يعيشون الآن في مخيمات أشبه بمخيمات اللاجئين.
تقترب الآن جولة الحوار الثالثة والأهم، وهي المخصصة للحوار بين حملة السلاح. من سيحضر في هذه الجلسة هو السؤال؟ طبعاً لا مكان للمتشددين هنا، فهل أمثال عبد الحكيم بلحاج قائد الجماعة الليبية المقاتلة من المحسوبين على المتشددين، أم أنه صار طرفاً سياسياً بعيداً عن العسكر رغم تملكه ميليشيا على الأرض وفي مطار المعيتيقة؟
جلسة الحوار المقبلة هذا الأسبوع يفترض وفق توافق الأطراف إجراؤها على الأراضي الليبية. نقلها من جنيف إلى ليبيا يعني حضور «فجر ليبيا» للجلسة، فهو اشترط وجوب أن يجلس الليبيون معاً على أرضهم. ولكن أين ستعقد هذه الجلسة؟ أي مدينة ليبية آمنة قادرة على ضم الفرقاء، بنغازي أم طرابلس؟ غات أم جالو أم الكفرة كما يروج؟
نقل الحوار إلى ليبيا فيه إحراج كبير لفريق «الفجر»، يعلم أن الحوار سينهي حكومته والانتقال إلى حكومة جديدة برعاية دولية. تشير المصادر إلى أن الحكومة الجديدة ستكون مهمتها تصريف الأعمال حتى الانتهاء من وضع الدستور الذي يطبخ حالياً في مدينة البيضاء من قبل أطراف مؤيدة للـ«كرامة»، وعلى أساسه ستجري الانتخابات البرلمانية المقبلة في ليبيا.
يعلم أركان «فجر ليبيا» أن الأمور في السياسة الآن ليست لمصلحتهم. بعض أطرافه تتحرك على الأرض بدعم داخلي وخارجي وتبثّ الفوضى في العاصمة طرابلس. التفجير في فندق كورينثيا ليس عابراً. من يعرف ليبيا يعلم أن هذا الفندق هو أشبه بمقر البعثات الدبلوماسية ومطبخ السياسة في الغرب الليبي. يومياً أيضاً تسمع أصوات الاشتباكات في أحياء طرابلس، السيارات المفخخة عادت إلى العاصمة هي الأخرى. مصادر مطلعة تؤكد لـ«الأخبار» أن قوى أساسية مدعومة من تركيا بصدد تحويل طرابلس إلى مقر للجماعات المتشددة إن جرى الحوار عكس ما تشتهي سفن «فجر ليبيا». ولا يبدو الأمر صعباً في ظل حالة الفلتان التي تعيشها العاصمة.
مرحلة دقيقة جديدة تعيشها ليبيا، كل الاحتمالات مفتوحة، نشر الفوضى سهل جداً، ففي طرابلس عشرات الميليشيات والسلاح في يد الجميع. القرار الحقيقي بين الفوضى والتوجه نحو لملمة البلاد بيد «فجر ليبيا» ومن خلفها في الخارج وتحديداً تركيا وقطر. المسألة معقدة في هذا الفريق، فبعض أركانه وضعت عليهم إشارات حمراء، لكنهم خطرون بميليشياتهم. فكيف يكون الحل معهم؟ لننتظر حوار رجال السلاح.