أنا أسامة الكبرا من كوكب فلسطين البعيد، ارتكبت منذ شهرين جرماً شائناً بحق الأمن اللبناني حين رغبت في دخول جنة عدن/ لبنان، فلم أكن بمقدار الكرم الذي غمرني به أمن المطار...تكرّم عليّ الأمن اللبناني بيوم واحد لدخول البلاد، من أجل إنجاز معاملات إدارية تحتاج الى خمسة أيام على الأقل لإنهائها، ولكنني ما كنت بقدر مكرمته هذه، فأنكرت جميله عليّ، وكفرت بنعمة إقامة اليوم الواحد، وما كان مني إلا أن تجرأت وأقمت خمسة أيام أخرى فيه.

أنا الفلسطينية سيلينا ابنة الفلسطيني أسامة الكبرا... أنا ابنة العامين التي اكتشفت أني مشتركة بجريمة إقامة أبيها خمسة أيام في لبنان فوق اليوم الذي منحنا إياه الأمن اللبناني.
أنا سيلينا الفلسطينية السورية ابنة العامين، أعلن أني نفذت الحكم الصادر بحق أبي، فمُنعت من دخول لبنان لخمس سنوات، بمعدل سنة عن كل يوم تأخير لأبي فيها...
أنا سيلينا... من كوكب فلسطين البعيد، أخطأت فنزلت جنة عدن على الأرض، تلك التي تسمى لبنان. ولكني لم أدر أن سنوات عمري التي لم تتجاوز العامين ستشكل خطراً على أمن هذا البلد.. فاعتذرت من الحدود والمطار والأمن، وتركتهم دوني آمنين.
أنا مهى سفر أمّ سيلينا... أحببت فلسطينياً من الكوكب البعيد، تزوجته فحملت إثم أن يكون المرء فلسطينياً في هذا الزمن العربي الرديء، أنا السورية مها سفر صرت اليوم أحمل إثمين، إثم الفلسطيني الذي أحببته وإثم السوري أيضاً، وعلى أبواب بيروت، وسط مطارها كان عليّ أن أجلد مرتين، مرة حين منع الأمن اللبناني دخول ابنتي ابنة العامين فحشرنا في غرفة وسط أكثر من خمسين موقوفاً سورياً بانتظار الترحيل من لبنان، ومرة ثانية حين شهدت أبناء بلدي سوريا في الغرفة يُجلدون بالبرد وسوء المعاملة، بإثم ملخصه أنهم سوريون.
لم يشأ أسامة ومهى وابنتهما سيلينا أن يسطروا الكلمات السابقة في سياق إدانة أحد.. ذلك لأن هذا الأحد بات بألف اسم وألف وجه وألف عنوان... هم سطروا وجعهم في رسائل إلى ضمير غائب، ويدركون أن رسائلهم في الغالب لن تصل إلى أحد، وهي بالغالب ستترك منذورة للريح كما أصحابها، أو تصلب على مانشيتات الصحف، كما سنفعل نحن، و... أو، تترك للمزاودة الوطنية فوق منابر التضامن مع الشعب الفلسطيني/ الشعب السوري، قبل أن تدخل خانة النسيان ليصير منع طفلة ابنة عامين من دخول لبنان، مثل موت طفلة وسط عراء المخيم، مثل تمزق جسدها بقذيفة هاون أو طائرة، مثل اغتيال براءة طفولتها... حادثة عابرة عادية لا تستحق الذكر.
ممنوعة سيلينا ابنة العامين من دخول لبنان بتهمة فلسطينيتها، هي تهمة كبيرة بحق طفلة صغيرة قضت بسببها مع أمها مهى، أربعاً وعشرين ساعة في الغرفة/ الزنزانة في مطار بيروت، بانتظار طائرة تعود بهما إلى حيث تقيمان في أربيل في إقليم كردستان العراق.
للمرة الأولى، تكتب لي مهى، لم يغازلني صباح بيروت بأغاني فيروز، لم أتوقف بنشوة الأم عند أغنية للسيدة سرقت منها اسم ابنتها: "نامي يا صغيرة نامي تانقيلك أسامي/ شفت مبارح بمنامي مدينة اسما سيلينا"... لوهلة تذكرت الأغنية في زنزانتا المؤقتة، ضحكت ثم انفجرت باكية وأنا أتذكر من كلمات الأغنية، قول فيروز: "بكرا بقعد ع بابي بحكي القصة لصحابي/ بيقولولي كذابة ما رحتي ع سيلينا"... قلت لنفسي أي قصة سأحكيها بعد اليوم عن بيروت دون أن أشعر بمرارة الساعات الأربع والعشرين على أبوابها؟... أكاد أشعر بأن ثمة من سرق العيد من سيلينا، لا سيلينا الساحة في أغنية فيروز فقط، بل سيلينا ابنتي أيضاً.
تدرك مهى اليوم، أنها وعائلتها لن تكون الوحيدة التي تدفع ضريبة قاسية لتغريبة أهل زوجها الفلسطيني، وتغريبة أهلها السوريين المستجدة... تشرح لي السيدة السورية كيف أنها حين غادرت بيروت التي خاصمتها برفقة ابنتها الفلسطينية، وقد تركت فيها حرقة قلبها على عائلات كاملة لم تزل وسط وحشة زنزانة الأخوة في المطار، دون أن تدري كم ستقضي تلك العائلات برفقة البرد بانتظار الفرج.