أتذكرُ البيت جيّداً حين يراودُني غيابي عنهُ، وارتجفُ قليلاً أمام النافذةِ الصغيرةِ حين أحدقُ أو أرمي نظرةً على الرّصيفِ البعيدِ ، أقولُ: آن أوان الرّجوع الى داليةِ البيتِ وأمي هناك في شمالِ البلادِ قرب البحرِ والنهر الباردِ ، طال غيابي وطالت شجوني وأحلامي لأنها الحرب التي مزّقت شكل البيوت وبعثرتنا في رمادِ المكانِ المدفون فينا، منفى أسميه ويسميني الغريب في بحار العالم كالرياحِ، هل يهدأُ البرق؟
ويعودُ الجلادُ الى صوابهِ، ونعيدُ للحياةِ صوتها المكسور بين الدم المنثور على أرض المخيم، والناس كطيور الجنّة في كل واحدٍ منهم قصيدته وقصّته يكتبها بنزفِ أصابعهِ ويسأل: أين أموت؟ وكيف أحيا؟ في عويلِ الرّكامِ والعواصف فوق البيوت التي أمست حريقاً لنا، هكذا أتذكرُ البيت في غربةِ الروحِ وملامح الموت المنتظر وملامح الموت الذي مضى مع النّهرِ الى النهرِ، هكذا أتذكرهُ وكأنّي أسألهُ: ماذا تريدُ يا موت من تينةِ البيت؟ هل أساءت لكَ؟ وهل أساء الربيع؟ وهل أساء الأصدقاءُ والجيرانُ والعصافيرُ حين تُغردُ للنّهار المخيمي؟ يا موت اعترف بأنّكَ أشعلت للطفولةِ نار الصليب، يا موت اعترف بأن لك في حديقةِ البيتِ كوخاً وفي نبضِ القلوب سهماً وفي قبر القبور قبراً يعرفنا ونعرفهُ حين يدخل فينا ويبدأ مثل الأفعى في شهر آب، تلسعنا ولا ندري من أي وكرٍ خرجتَ وأنت الذي تأتي بلا موعدٍ في هذا الربيع الدامي لمجزرةٍ فلسطينيّة تدعى (نهر البارد) وسط الدمار والأمواجِ، أيها النهرُ يا ذاكرتي ونفسي الثكلى بأيامها وأفكارها، كم رأيتك في منامي وذرفتُ دمعاً عليكَ، ووقفتُ أمام نافذتي الصغيرة كي أرى الصحراء برملها وسرابها، فرمتني الريحُ الى الأفقِ البعيدِ، فوجدتُ أنّي سجينُ هذه الشمس التي ملأتني بنارِها، لأنّي أناديهِ باسمهِ "منفى وطعم العذاب" هناك في الصيف الحار، ليس سوى الرمل وليس سوى الدموع والحنين الى فجرنا المقدّس، هو فجرنا المقدس، هو جرحنا وصلاتنا وكتابنا، هو الصباح والمساء، هو الشروق والغروب، هو: ما أقسى الحياة بدون البيت.