الجنون الذي طاول أسعار الإيجارات في سوريا لا يرتبط بالعلاقة النسبيّة بين العرض والطلب فحسب، بل هو أشبه بباب جديد من أبواب تجارة الحرب. ويمكن القول إن العائلات التي اضطرّت إلى مغادرة المناطق الساخنة، واختارت الانتقال إلى إحدى المحافظات الآمنة نسبيّاً (النزوح الداخلي) باتت مضطرّة إلى دفع بندٍ مضاعف من بنود «فاتورة الأمان» الباهظة، وهو بند الإيجار.
منذ سنوات طويلة تُعتبر أسعار الإيجارات في دمشق باهظة. لكنّ موجة النزوح، التي شهدها كثير من مناطق ريف دمشق نحو العاصمة أو ضواحيها (التابعة إدارياً لمحافظة ريف دمشق ولكنها آمنة نسبيّاً) ضاعفت الغلاء، فارتفع متوسط الإيجارات بنسب تتراوح بين 50 و150%، تبعاً للمنطقة. وانفردت «دمشق الإداريّة» بإجراءٍ يجب على المستأجر القيام به قبل شغل أي عقار، وهو استصدار الموافقة الأمنية. ورغم أن «الدراسة الأمنية» هي إجراء متّبع نظريّاً في كل المدن السورية، غير أن تطبيقه بهذه الصّرامة بات حكراً على العاصمة.
يقول مُعقّب المعاملات أحمد لـ«الأخبار» إنّ «الحصول على موافقة أمنية للسكن تكاد تكون المهمة الأصعب أمام المستأجر. وفي بعض المناطق يأتي رد الفرع الأمني المسؤول بالرفض على تسع إضبارات من كل عشر». صعوبة الحصول على الموافقة تختلف تبعاً للمنطقة السكنية، والجهة الأمنيّة المسؤولة عنها. أحياء الشعلان، المالكي، أبو رمّانة، الروضة ومحيطُها (يُصطلح على تسمية تلك المناطق المربع الأمني) تُعتبر الأصعب، ويتولّى النظر فيها الفرع 40 التابع لوحدة الأمن الداخليّ في جهاز أمن الدولة. لا معايير واضحة للحصول على الموافقة الأمنية، وحين يأتي الجواب بالرفض يأتي غير مُعلّل. خلال عام 2014 على وجه الخصوص، سُجلت صعوبةٌ كبيرة في الحصول على موافقة للسكن في تلك المناطق، علاوةً على رفض تجديد الموافقة لعدد كبير من المستأجرين السابقين (يجب الحصول على موافقة جديدة مع كلٍ تجديد للعقد، ولو كان المستأجر ذاته).
كذلك، بات استئجار الشقق في بعض المناطق مرهوناً بالانتماء الديني والطائفي للمستأجر. والأمر هنا ليس نابعاً من إجراء رسمي، بقدر ما هو نابعٌ من سلوك اجتماعي لأصحاب الشقق في بعض المناطق المحسوبة تاريخيّاً على فئاتٍ بعينها. أبو فادي، صاحب أحد المكاتب العقارية يشرح لـ«الأخبار» أنّ «أصحاب الشقق باتوا يشترطون مواصفاتٍ معيّنة في المستأجر، على رأسها الدين». ويضيف: «بصراحة، في منطقتي ما عاد حدا يقبل يأجر غير المسيحيين». الأمر ذاته ينطبق على عدد من الأحياء، بعضها اعتماداً على الدين، وبعضها الآخر اعتماداً على الطائفة.
أرقامٌ قياسيّة..

والموتُ ليس بالمجّان!

كسرت أسعار إيجارات الشقق السكنية في مدن الساحل السوري كل الأرقام القياسية التي كان يخطر في البال أن تبلغَها. وفي حين كان متوسط الإيجار للشقق المفروشة في اللاذقية على سبيل المثال يتراوح بين 10 و15 ألف ليرة في مطلع عام 2012 (حوالى 150 دولاراً في حينها) ارتفع هذا المتوسط إلى 50 ألف ليرة منتصف عام 2014 (250 دولاراً).
كسرت أسعار
الإيجارات في مدن الساحل السوري كل الأرقام القياسية
وبحساب الليرة السورية، فإنّ المتوسط تضاعف ثلاث مرّات. المدينة ذاتها شهدت دخول أرقام من فئة الأصفار الأربعة على الخط، فبلغ إيجار بعض الشقق المفروشة في أحياء مثل المشروع العاشر 150 ألف ليرة! وهو مبلغ يُماثل ما يُدفع في بعض الأحياء الدمشقية الفارهة (المالكي على سبيل المثال). الأمر ذاته تكرّر في طرطوس، مع فارق أنّ متوسط أسعار الإيجارات فيها كان أكبر من نظيرتها قبل موجة النزوح الهائلة التي اجتاحتهما. وإذا كان ارتفاع الإيجارات في الساحل أمراً له ما يبرره (عمليّاً، وليس أخلاقيّاً) فإن ارتفاعه في مدينة منكوبة مثل حلب يبدو مثاراً للاستغراب والاستهجان. الأمان في معظم أحياء حلب الغربية ليسَ سلعةً متوافرة دائماً. قذائف الهاون و«مدافع جهنّم» لا تميّز بين حيّ وآخر، شأنها في ذلك شأن بدل إيجار الشقق، الذي سجّل ارتفاعاً يتراوح بين 50 و100% في الأحياء الغربية، بما في ذلك تلك التي تُعتبر «خطوط تماس»!

المستأجر: الحلقة الأضعف

في كل ما تقدّم، يبدو المستأجر هو الحلقة الأضعف. أصحاب الشقق دأبوا على اشتراط الحصول على دفعات كبيرة مقدّماً، وبات معظمهم يشترط استيفاء أجرة كامل المدة التي ينص عليها العقد سلفاً. وفي المناطق التي ينبغي الحصول فيها على موافقة أمنية (دمشق) يشترط معظم أصحاب الشقق الحصول على عربون يعادل أجرة شهر كامل، يخسرها المستأجر في حال عدم الموافقة، فيما اعتاد أصحاب المكاتب العقارية والسماسرة الوقوف في صف صاحب الشقة دائماً.

الدّولة: «الزوج المخدوع»!

المفارقة الأكبر في الملف تتعلق بمؤسسات الدولة السورية، التي يبدو أنها ارتضت لنفسها تمثيل دور «الزوج المخدوع». معظم عقود الإيجار لا يدوّن فيها بدل الإيجار الحقيقي، وتُسجل بدلاً من ذلك قيم وهمية تتراوح بين 500 و1000 ليرة شهريّاً! بغية تهرّب صاحب العقار من تسديد الضرائب الحقيقية المترتبة عليه، والبالغة 1% من بدل الإيجار. ومن المألوف أن يقوم مالك العقار بتسجيل بدل وهمي قدره 500 ليرة، لعقار يتقاضى أجرته 50000 ليرة، مفوّتاً على الخزينة العامّة 100 ضعفٍ، فقط، من قيمة ضريبته الحقيقية. يحدث هذا في بلدٍ عمدت حكومته أخيراً الى رفع أسعار بعض السلع الأساسية لأسباب عدّة، من بينها شحّ الموارد الماليّة!