أذكر يوماً أنني تحدَّثت مع صِبيةٍ رفقاء لي، ضربني أكبرهم سناً قائلاً: ليش عم تلوي لسانك ولى؟؟ فأصررت على أن أستعمل تلك اللهجة البعلبكية الثقيلة ــ الممطوطة بعض الشيء إمعاناً في إزعاج ذلك الفتى الكبير. كانت النتيجة أن تخلخل أحد أسنان الحليب لديّ. كان الأغبياء ــ المُبَرْمَجون موجودين منذ تلك الفترة، يظهر أنهم "يخلقون" أنى وجدت البشرية.
لم أكن أعرفُ شيئاً عنهم. كانوا فعلاًً أمراً محيراً بالنسبة إليّ، حتى إن اسمهم لم يكن "لبنانيين" كان اسمهم "بنانيين" دون حرف اللام. تلك لم تكن البتة محاولةً للتقليل من قيمتهم أو حتى إهانتهم ــ بالنسبة إليّ ــ، لكن كانت نوعاً من "السلانغ" (العامية) التقليدي اعتماداً على مشاعر كراهيةٍ كان يبثها عابرٌ ما أو كاره آخر. كانت حرب المخيمات الأخيرة قد أرخت بظلها على العلاقة المصيرية بين الشعبين اللبناني والفلسطيني، الشارع الفلسطيني عابقٌ بكل مشاعر الكراهية للآخر، اللبناني كذلك، ولولا الوجود السوري في تلك المرحلة لبقي الموت مخيماً على المكان حتى فناء الطرفين. كنت طفلاًً لا يعرف الكثير إلا ما يسمعه من الكبار. نستنسخ نحنُ الصغار ــ آنذاك ــ كل ما يحكيه ويحيكه الكبار لنا، فنلبسه في روحنا كما لو أنّه أُعدّ خصيصاً لنا. كانت معارك الأغبياء كما أسميها اليوم ترتع في كل الأزقة، في قلوب الناس، كما في وجوههم. أغبياءٌ منا يهاجمون أغبياء منهم. والأغبياء ميزتهم أنّهم كثر. وحينما يختارون قائداً فإنه سيكون أكثرهم تمظهراً لهذا الغباء، فكان ذلك الغباء يخرج على عدّة أشكال: تعصب، عنصرية، بغض، كراهية، وبالتأكيد قتل ودم. لا يهم من كان يقتُلُ أكثر، لم يكن أحدٌ يشبع. كان تلك الحروب العبثية الغبية تمزق أرواح الناس كل لحظة. اختفى العقلاء من الطرفين، لا أحد يحب سماع صوت "العقلاء" أثناء "المذابح"، فخلال المعركة لا أصوات تعلو فوق صوت البندقية. كنا شركاء حتى دون أن ندري في حروبٍ لم يمت فيها أي "ابن" مسؤولٍ في حزبٍ سياسي (من الطرفين)، كما لم تدمر منازل هؤلاء، كما لم "تفتر" حساباتهم البنكية. كان صغار الأغبياء يموتون في الطرقات، بينما كبارهم كانوا يلتقون كي يسهروا معاً يلعبون الورق ويشربون "الويسكي" ليتباحثوا في شؤون "الأمة".
كان منزل جدتي "رئيسة" بالقرب من مدخل المخيم الذي يسمّى مدخل سينما "بالاس". وسينما بالاس هي واحدةٌ من تلك السينمات الشعبية الرخيصة التي تشاهد فيها خمسة أفلامٍ دفعةً واحدة، واحدٌ منها كان فيلم "عيب" كنا نحلم بمشاهدته، فكانت تروى القصص والحكايا حولها، تارةً مرعبةً وطوراً مغامرةً مفاجئة. وبعد جولة لعبٍ مضنيةٍ صعدتُ إلى منزل جدتي، فطلبت مني أن أحضر شيئاً من جيرانها الذين يسكنون في الطبقة السفلى. نزلتُ لأحضر الأغراض وعدت قائلاً بلهجةٍ شبه تقريرية: ستي هاي آخر مرة بتنزليني لعند هدول، أنا بكرهن للبنانيي، العمى انشالله. كانت جدتي مخلوقاً من ألطف مخلوقات الأرض، كانت حنونة لدرجةٍ مذهلة، السيدة التي أتت من فلسطين وهي في عمرٍ واعٍ كانت بمثابة درعٍ واقٍية لي ولأختي خلال مدةٍ طويلة من الزمن. نظرت إليّ "ستي" بغضب بالغ، دخلت إلى المطبخ، أحضرت إحدى عصيّ تحريك الطعام، وكانت من أدوات الطعام الخشبية القليلة آنذاك، إذ لم يكن الهجوم الصيني قد اجتاح بلادنا بعد، وضربتني على يدي وهي تقول: أوعك أسمعك عم تحكي هيك يا ستي! إذا بسمعك هيك عم تحكي والله بموتك. كانت تلك صدمة حياتي.
السيدة القديسة ضربتني يومها. المرأة التي لا تغضب من شيءٍ وتتحمل كل شيءٍ بصبرٍ وأناةٍ أغضبتها "أنا" حد الضرب! فبدأت بالبكاء وجلست في أرض المطبخ، فعلاً لم أكن أدري ماذا أفعل. سيحدثكم كثيرون أنهم هربوا، مشوا، رحلوا، أما أنا فهول الحادثة كان أكثر "صدمةٍ" من أي شيء. أما هي فلم تهدأ، دخلت غرفتها، ارتدت "ثوبها الطويل" وإيشاربها الذي كانت تربطه على طريقتها البسيطة المعتادة، وقالت لي: تعال. فلم أجبها، اقتربت مني وقالت: "تعال يلا" مادةً يدها. أمسكت يدها فأعطتني "محرمةً" لمسح دموعي ونزلنا الدرج. خرجنا من المخيم، صعدنا في سيارة الأجرة، وجدتي لا تتكلم، وأنا مثلها لا أتكلّم. كان لجدتي صديقة في مثل سنّها، كانت تلك الصديقة تسكن منطقة أبو شاكر في الطريق الجديدة، كانت تلك المرأة المسنّة تعطيني مالاً كلما زرتها مع جدتي، فضلاً عن الحلوى اللذيذة التي تعدها في المنزل، باختصار: كنت أحب زيارتها للغاية وأنتظرها بفارغ الصبر. زرنا أم وليد وقتها وحصل الأمر كالمعتاد، وجدتي لم تقل شيئاً لي. اعتقدتُ أنها كانت "تراضيني" لأنها كانت تعرف حبي لتلك الزيارة. عدنا بعد ذلك إلى المخيّم، كان الوقت متأخراً بعض الشيء، مشينا قليلاً، دخلت جدتي دكان "أبو وائل" في المخيم، هي لم تكن تشتري من عنده أبداً، لأنه ــ وكما يعلم الجميعُ عنه ــ "حرامي" فضلاً عن قلة أخلاقه مع زبائنه. حاولت جدتي الشراء من هناك، لكنها لم تفعل في النهاية. لم تكن الكهرباء تزورنا كثيراً في تلك الأيام. لذلك كانت فكرة "المصعد" درباً من الخيال. وكان المنزل في الطبقة الخامسة. المرأة المسنة المذهلة كانت تصعد الدرج بأناةٍ ولكن بخفةٍ وهدوء. وما إن وصلنا وشربت كأس ماء، نظرت إليّ وقالت: بعدك زعلان؟ فأومأت برأسي إيجاباً. فأكملت: عبودي بتعرف إنو إم وليد لبنانية؟ كانت تلك بالتأكيد صدمةً جديدةً لي. إم وليد لبنانية؟ "يا غيرة الدين"! وانت عارف كمان إنو أبو وائل فلسطيني صح؟ فأومأت مرةً أخرى. مين بتحب إنت أكتر أبو وائل ولّا إم وليد؟ بالتأكيد كانت إجابتي الممزوجة برشوة الحب الذي كانت تغدقه تلك المرأة اللطيفة عليّ: إم وليد. أجلستني ساعتها بقربها وقالت لي: يا عبودي، كلنا زيّ بعض، فينا العاطل وفينا المنيح، وهنّي فيهن العاطل وفيهن المنيح. شو بدك بحكي الولاد المش مأدبين، ما تزعلني منك مرة تانية. رح تزعلني منك مرة تانية؟ وكعادتي أومأت نافياً، فأسرت: "إيه تعال أعملك مغلي"، وكان ذلك عشقي الأكبر.
سمعتُ بعدها قصصاً كثيرة، وحكايا كثيرة عن كراهيةٍ متبادلة، وحده كلام جدتي وتعاليمها يظل ينير عقلي: فيهن المنيح وفيهن العاطل، انت شوف اللي بدك تشوفو، لإنو هادا "أنت".